السبت، 24 مارس 2012

لماذا ينكر الإخوان حد الردة ؟!


لماذا ينكر الإخوان حد الردة ؟!

رد على رئيس حزب "تواصل" الإخواني




بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة:


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد :
فقد قرأت مقابلة أجراها موقع "تقدمي" مع محمد جميل منصور رئيس حزب "تواصل" الإخواني في موريتانيا ونشرتها بغبطة صحيفة السراج الإخوانية.
 تحدث ولد منصور في هذه المقابلة عن حد الردة بما يتنافى مع المسلمات الشرعية والنصوص الثابتة، وبما يبدو أنه إنكار لحد الردة أو دعوة للتخلي عنه.
ولقد دهشت –في الحقيقة- كثيرا وتألمت كثيرا عندما قرأت هذه المقابلة .. فلم أكن أتخيل أن تميع الإخوان وخاصة في موريتانيا وصل إلى هذه الدرجة حيث تنكر الأحكام الشرعية الثابتة بجرأة كبيرة وصراحة واضحة !
وزادت دهشتي عندما كتبت مختصرا لهذا الرد على تلك المقابلة وأرسلته إلى صحيفة "السراج" الإخوانية فقامت بنشره على مضض في صفحاتها، وكنت من شدة حسن الظن بالقوم أتخيل أن ذلك الرد سوف يحدث هزة كبيرة في الإخوان أو تذمرا واسعا وسط أتباعهم عندما يلاحظون مدى التميع الذي وصل إليه قادتهم ..لكن شيئا من ذلك لم يحدث !
بل حدث ما يمكن أن نعتبره إجماعا سكوتيا على هذا الانحراف الخطير !!
فشعرت حينها بأن مرض القوم ذهب في الأعماق إلى أبعد مدى ولا حول ولا قوة إلا بالله !
ورحم الله زمانا كان فيه المسلمون إذا تناظروا أقر المحجوج بالحق ورجع عن رأيه ..
ذكر الحطاب أن ابن رشد حضر درس بعض الحنفية فقال المدرس: الدليل لنا على مالك في المسح على العمامة أنه مسح على حائل أصله الشعر فإنه حائل .
فأجابه ابن رشد : بأن الحقيقة إذا تعذرت انتقل إلى المجاز إن لم يتعدد، وإلى الأقرب منه إن تعدد، والشعر هنا أقرب والعمامة أبعد، فيتعين الحمل على الشعر .
فلم يجد جوابا فنهض قائما وأجلسه بإزائه .
 ومن المؤسف أن هؤلاء المنكرين لحد الردة ممن يوصفون بأنهم إسلاميون كالقرضاوي وفهمي هويدي وأحمد الريسوني ومحمد سليم العوا وغيرهم من جماعة الإخوان الذين أنكروا حد الردة أو شككوا فيه قاموا من حيث يشعرون أو لا يشعرون بخدمة العلميين وسهّلوا عليهم مهمة إنكار هذا الحكم الشرعي الثابت، فبعد أن كان هذا الحكم مسألة مجمعا عليها ومحسومة في الشريعة من خلال النصوص الصحيحة الصريحة والإجماع العملي الثابت أصبح اليوم قضية خلافية كما يزعم هؤلاء العلمانيون وهم يستدلون على ذلك بأقوال المشككين في حد الردة من جماعة الإخوان !
وبعد أن كنا نأمل أن يطبق الإسلام على أيدي هؤلاء القوم أصبحنا اليوم نتمنى أن يسلم من شرهم !
ولا أعتقد أبدا أن من يتجرأ على إنكار حد الردة سوف يسعى بعد وصوله إلى الحكم إلى تطبيق شرع الله ..
لأنه لن يصل إلى الحكم إلا بعد وصوله إلى شاطئ الكفر !
إن إنكار هؤلاء الرموز الإخوانيين لحد الردة ما هو إلا مثال واحد من أمثلة كثيرة على ليّهم لأعناق النصوص وردهم للسنة الصريحة وإنكارهم للإجماع الثابت عندما لا يتوافق كل ذلك مع منهجهم البدعي المتميع .
وهذا الإنكار لحد الردة دليل على أنهم يسعون جاهدين إلى تكييف الشريعة الإسلامية – بالحذف والزيادة – مع منظومة الأفكار والقيم الغربية حتى تكون منسجمة معها تماما ..
فإيمانهم العميق بمبدأ حرية التدين على الطريقة الغربية هو الذي جعلهم يتحرجون من تطبيق حد الردة لكونه – في نظر الغرب - يتنافى مع حرية التدين !
وهكذا كل المفاهيم والأحكام الإسلامية التي لا تنسجم مع منظومة القيم الغربية يقوم هؤلاء الإخوان المجددون بإنكارها أو تغيير مفهومها كما حدث في إنكارهم جهاد الطلب وتهوينهم من شأن الحدود ومحاولة تغيير الكثير من المفاهيم الشرعية الأخرى.
فالقضية ليست محصورة في حد الردة وإنما يتعلق الأمر بمنهج يرمي إلي تطوير الإسلام علي حساب الثوابت والمسلمات ولا يتورع عن ترويج أي فكرة تخدم هذا التطوير مهما كانت درجة مصادمتها لنصوص الوحي وقواطع الشرع !!
ويبدوا أن جماعة الإخوان بما فيها من قيادات فكرية وسياسية تكاد تكون مجمعة على التشكيك في حد الردة والقول بعدم ضرورته في الفترة الحالية على الأقل !
وهم يعتمدون في هذا الموضوع أساسا على أطروحات القرضاوي التي كان من نتائجها استحداث بدعتين شنيعتين في مسألة "حد الردة"،
البدعة الأولى :
قوله بتقسيم الردة إلى ردة مغلظة وهي ما كانت مصحوبة بالخروج على الحكم أو الدعوة إلى الكفر،  وردة مخففة وهي ما كانت مجردة عن ذلك ،ومع أن هذا ليس هو تعريف الردة المغلظة الذي ذكره أهل العلم، فقد زعم أيضا بأن حد الردة لا يطبق إلا على من ارتد ردة مغلظة !
ومن كلامه في هذا الصدد :
(هو يعني حد الردة فيه كلام كثير وأنا كتبت فيه كتابات عدة. فيه ردة مغلظة وردة مخففة، فيه واحد يرتد ويظل بردته لنفسه خلاص يروح جهنم يعني ما يهمناش، إنما الخطر الذي يرتد ويريد أن ينشر ردته في المجتمع فهذا يكون خطرا على الأمة وعلى عقيدة الأمة وعلى هوية الأمة) [الشريعة والحياة، حلقة بتاريخ : الثلاثاء 30/11/2010 م].
ولعل الإمام الهمام نسي أن يخبرنا بأسماء العلماء الذين سبقوه لهذا القول !
فالعلماء الذين قسموا الردة إلى مغلظة ومخففة لم يقل احد منهم بسقوط الحد عن مرتكب الردة المخففة .
البدعة الثانية :
زعمه بأن المرتد يستتاب أبدا واستدلاله بأقوال منسوبة كذبا إلى النخعي والثوري دون أن يكلف نفسه الحديث عن مصدر هذه الأقوال .. ولا يخفى أن الاستتابة أبدا تعني ترك إقامة الحد .
يقول القرضاوي في تقرير هذه البدعة :
(العلماء يقولون إنه لا يعاقب المرتد حتى يستتاب وبعضهم قال نستتيبه ثلاثة أيام وبعضهم قال شهرا وبعضهم قال يستتاب أبدا، الإمام النخعي والإمام الثوري قالوا يستتاب أبدا، نفضل كل شوية نرجع نقول له إيه إيش رأيك ونحبسه.. ففي يعني مجال للاجتهاد في هذا الأمر) [الشريعة والحياة، حلقة بتاريخ : الثلاثاء 30/11/2010 م].
وهذا المذهب الذي تبناه القرضاوي هو الذي تعلن قيادات الإخوان اليوم عن تبنيه والتمسك به،
نشرت صحيفة اليوم السابع :
(أكدت قيادات بمكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين رفضهم لوضع قانون لتطبيق حد الردة، وأوضحت قيادات الجماعة أن المناخ والبيئة غير مهيئين الآن لمثل هذا القانون أو أي حد من الحدود، رغم أهميتها كجزء من العقيدة الإسلامية والشريعة، لكن يسبقها، كما قالوا، مبادئ وأولويات كثيرة.
وأوضح د.أسامة نصر، عضو مكتب الإرشاد، أنهم كمكتب إرشاد يعتمدون على ما قاله الشيخ يوسف القرضاوى فيما يتعلق بتطبيق حد الردة، وهو استتابة من يرتد بدون وقت أو عدد مرات معين، طالما أنه لا يؤذي المسلمين ولا يقوم بالدعوة للدين الجديد الذى اعتنقه.
وذكر نصر أن المادة الثانية من الدستور المصرى كفيلة بأن تحفظ تطبيق الحدود في ضوء القانون الطبيعى بدون إيجاد قانون جديد خاص بحد الردة، مشيرا إلى أنه طالما ذكر الدستور أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع فلابد أن تراعى جميع القوانين والتشريعات هذا النص عند التطبيق، وعليه يؤكد أنهم كإخوان يبحثون عن تطبيق الرأي الغالب لدى جمهور العلماء المسلمين من أهل السنة والجماعة، وهو " أن من يرتد يستتاب إلى عدد غير محدود من المرات طالما أنه ابتعد عن إيذاء المسلمين أو ما لم يثبت أنه يدعو لنشر الدين الجديد الذى دخل فيه".
واختتم نصر بأن الآراء الفقهية والرأي الوسط والذى يحمل تيسيرا على الناس هو الأولى بالاتباع فى هذه الحالة، وهو مراجعة أي مرتد وقتا طويلا أملا فى استتابته، وهو الراجح عند الفقهاء والراجح فى الشرع، كما قال). المصدر : صحيفة اليوم السابع[1].
ويقول عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان:
(فالمقصود بالمرتد هو الشخص الذي ينقلب على النظام العام وليس المرتد عقائديا وهو ما يتضح في قوله تعالى: «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» كما أن قتال المرتدين بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم كان ضد الخارجين على النظام العام. (
المصدر جريدة المصري اليوم[2] .
وهذا كله دليل على أن كلام جميل منصور الذي كتبنا هذه السطور في الرد عليه يعبر بالفعل عن موقف الإخوان ..
وأن إنكار وجوب قتل المرتد هو الموقف الرسمي لجماعة الإخوان .
وقد رأيت أن من الواجب بيان الحكم الشرعي في هذا الأمر بالنصوص المحكمة والادلة الواضحة، إبراء للذمة وقياما بواجب النصح، فنسأل الله تعالى الإصابة والقبول، ونعوذ به من الزيغ والضلال والانحراف .
أبو عبد الرحمن الشنقيطي .
26 ذي الحجة 1431هـ .




الفصل الأول
مقدمات ضرورية
لتفنيد هذه الأقوال الباطلة المشككة في حد الردة، وبيان ما فيها من خطورة لا بد من التنبيه أولاً على بعض المقدمات الضرورية الهامة التي تعين معرفتها على كشف الالتباس وإزالة الشبهات حول هذا الحكم الشرعي.
وهذه سبع مقدمات ضرورية في هذا الموضوع:
المقدمة الأولى
قتل المرتد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام
 أما من سنة النبي صلي الله عليه وسلم فقد ورد في ذلك:
1 - ‏ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «‏‏مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
أخرجه البخاري (6922)، وأبو داود (4351)، والترمذي (1463)، والنسائي (7/104)، وابن ماجه (2535)، وأحمد (1/217، 282) .
وفي لفظ ابن ماجه :
2530 – حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا حفص بن عمر حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جحد آية من القرآن فقد حل ضرب عنقه).
2 - ‏ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة) [أخرجه البخاري، ومسلم].
 وفي الباب عن عثمان وابن عباس وعائشة.
وحديث عثمان أخرجه الحاكم وأصحاب السنن، وحديث ابن عباس أخرجه النسائي، وحديث عائشة أخرجه مسلم وأبو داود.
3 – عَنْ ‏أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه:
(أن النبي صلي الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن ثم أَتْبَعَهُ ‏‏مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، ‏فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ: انْزِلْ، وَأَلْقَى لَهُ وِسَادَةً، وَإِذَا رَجُلٌ عِنْدَهُ مُوثَقٌ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ، فَتَهَوَّدَ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، نَعَمْ، قَالَ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ) [أخرجه البخاري، ومسلم].
وفي لفظ لأبي داود :
عن طلحة بن يحيى وبريد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي بردة عن أبي موسى قال:
(قدم علي معاذ وأنا باليمن ورجل كان يهوديا فأسلم فارتد عن الإسلام فلما قدم معاذ قال لا أنزل عن دابتي حتى يقتل فقتل، قال أحدهما: وكان قد استتيب قبل ذلك)
وهذا حديث مرفوع من جهتين:
الأولى: قول معاذ رضي الله عنه "قضاء الله ورسوله" وهذا رفع للحديث إلى النبي صلي الله عليه وسلم بالتصريح .
الثانية: أنه فعل الصحابة في زمن النبي صلي الله عليه وسلم فله حكم الرفع كما قال العراقي في الألفية:
وقوله كنا نرى إن كان مع *** عصر النبي من قبيل ما رفع
ودليل هذه القاعدة ما رواه مسلم:
عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل ) زاد إسحق قال سفيان: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن.
4- وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: لقيت خالي أبا بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين؟
فقال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه أن أقتله، أو أضرب عنقه).
وزاد في رواية معاوية ابن قرة عن أبيه: وأخمّس ماله.
(45) مسند أحمد (4/295)، سنن أبي داود (4457)، الترمذي (1362)، ابن ماجه (2607)، وصححه ابن حبان (4112)، والحاكم (2/191) ووافقه الذهبي.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: "إنّ تخميس ماله دَلَّ على أنّه كان كافراً لا فاسقاً، وكفره بأنّه لم يحرم ما حرّم الله ورسوله". مجموع الفتاوى (20/92).
5- عن جابر أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن رجعت وإلا قتلت [رواه الدارقطني في السنن والبيهقي في السنن الكبرى].
6- في بعض الروايات في حديث معاذ لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها، فإن عادت وإلا فاضرب عنقها)، أورد هذه الرواية الحافظ في الفتح وحسنها.
والأحاديث الأول والثاني والسادس دليل على أن قتل المرتد ثابت عن النبي صلي الله عليه وسلم قولا.
و الحديث الثالث دليل على أنه ثابت عنه تقريرا.
والرابع والخامس دليل على أنه ثابت عنه فعلا.
وبهذا يكون قتل المرتد ثابتا عن النبي صلي الله عليه وسلم بأنواع السنة كلها القولية والفعلية والتقريرية.
وأما فعل الصحابة فمما ورد منه:
1 – عن أبي هريرة قال:
(لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) [أخرجه البخاري (6924، 6925)، ومسلم (20)].
2- وقد قتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه امرأة ارتدت بعد إسلامها يقال لها أم قرفة.
 أخرجه الدارقطني في سننه 2811، والبيهقي في سننه الصغري 1450، وفي السنن الكبرى حديث 15521، والأموال للقاسم بن سلام حديث 418، وكتاب المحاربة من موطأ ابن وهب حديث 23.
وقال ابن حجر رحمه الله:
( وقتل أبو بكر في خلافته امرأة ارتدت والصحابة متوافرون فلم ينكر ذلك عليه أحد، وقد أخرج ذلك كله ابن المنذر، وأخرج الدارقطني أثر أبي بكر من وجه حسن) ذكر ذلك ابن حجر في باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.
3- وقال ابن عبد البر المالكي رحمه الله: وروى عبادة عن العلاء بن أبي محمد أن عليا أخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام فعرض عليه الإسلام شهرا فأبى فأمر بقتله " فتح المالك بتبويب التمهيد ج8 ص286 أخرجه عبد الرزاق برقم 18709ج10 ص 170 عن أبي عمرو الشيباني.
وفي مصنف ابن أبي شيبة :- (ج 7 / ص 600):
(32) ما قالوا في المرتد ما جاء في ميراثه: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن علي أنه أتى بمستورد العجلي وقد ارتد فعرض عليه السلام فأبى، قال: فقتله، وجعل ميراثه بين ورثته المسلمين.
4- وروى عبد الرزاق في المصنف :
(18709) - أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني قال: أتي علي بشيخ كان نصرانيا فأسلم، ثم ارتد عن الإسلام، فقال له علي : لعلك إنما ارتددت لان تصيب ميراثا، ثم ترجع إلى الإسلام ؟ قال : لا، قال : فلعلك خطبت امراة فأبوا أن يزوجوكها، فأردت أن تزوجها ثم تعود إلى الإسلام ؟ قال : لا، قال : فارجع إلى الاسلام ! قال : لا، أما حتى القى المسيح [ فلا ]، قال: فأمر به، فضربت عنقه، ودفع ميراثه إلى ولده المسلمين.
5-وروى عبد الرزاق في المصنف أيضا:
(18707) - عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: أخذ ابن مسعود قوماً ارتدوا عن الاسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه: أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله).
6-وفي مصنف ابن أبي شيبة - (ج 7 / ص 596):
حدثنا شريك عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: "لا يساكنكم اليهود والنصارى في أمصاركم، فمن أسلم منهم ثم ارتد فلا تضربوا إلا عنقه".
7- وفي مصنف عبد الرزاق:
(18692) - أخبرنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني سليمان بن موسى أنه بلغه عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أنه كفر إنسان بعد إيمانه، فدعاه إلى الاسلام ثلاثا، فأبى، فقتله).
***
فقتل المرتد ثابت عن الصحابة والخلفاء الراشدين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنتهم فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) أخرجه أبو داود، والترمذي.
وقد روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:
1403 - أخبرنا سعيد بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح، وأحمد بن يزيد المعلم، قالا: نا موسى بن معاوية، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس، قال: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: « سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا، أخذنا بها تصديقا بكتاب الله عز وجل واستكمالا لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله سبحانه، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى، وصلاه جهنم وساءت مصيرا».
وقال البربهاري في شرح السنة:
"وليس لأحد رخصة في شيء أخذ به مما لم يكن عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون رجل يدعو إلى شيء أحدثه من قبله من أهل البدع فهو كمن أحدثه فمن زعم ذلك وقال به فقد رد السنة وخالف الحق والجماعة وأباح الهوى وهو أشر على هذه الأمة من إبليس ".
فأترك ما علمت لرأي غيري ***  وليس الرأي كالعلم اليقين
وقد سنت لنا سنن قوام    ***     يلحن بكل فج أو وجين
وكان الحق ليس به خفاء      ***     أغر كغرة الفلق المبين
فأما ما علمت فقد كفاني    ***   وأما ما جهلت فجنبوني
وقد اعترف ولد الددو - وهو من قادة الإخوان في موريتانيا- بثبوت حد الردة في الكتاب والسنة ولكنه زعم بأنه لم يطبق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، فقال:
 (حد الردة، هذا حد من الحدود لم تعرف إقامته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمان أبي بكر ولا في زمان عمر ولا في زمان عثمان ولا في زمان علي، وهو حد من الحدود الثابتة المقررة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يعرف أن أحداً ارتد فاستتيب فلم يتب فقتل، بل كان يرتد الناس فيتوبون ويرجعون، أو لا يرتدون أصلاً) محاضرة "السياسة في الإسلام".
والروايات التي أوردنا كافية في الرد عليه.



المقدمة الثانية

الإجماع منعقد على وجوب قتل المرتد

نقل الإجماع على وجوب قتل المرتد غير واحد من أهل العلم نذكر منهم:
1- ابن قدامة الحنبلي :
قال : « وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ولم يُنكر ذلك فكان إجماعا». [المغني مع الشرح الكبير 9 / 16] .
2- النووي الشافعي :
قال : «إذا ارتد الرجل وجب قتله، سواء كان حرا أو عبدا، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير نفس)، ثم قال: (وقد انعقد الاجماع على قتل المرتد ) [المجموع شرح المهذب 19 /228].
3- ابن عبد البر المالكي :
قال : (والقتل بالردة على ما ذكرنا لا خلاف بين المسلمين فيه ولا اختلفت الرواية والسنة عن النبي صلي الله عليه وسلم فيه وإنما وقع الخلاف في الاستتابة وفيما ذكرنا من المرتدة "[فتح المالك بتبويب التمهيد ج8 ص 291].
وقال أيضا : (وفقه هذا الحديث أن من ارتد عن دينه حل دمه وضربت عنقه والأمة مجتمعة على ذلك وإنما اختلفوا في الاستتابة) [فتح المالك بتبويب التمهيد ج8 ص 285].
4- الكاساني الحنفي :
قال : « منها – أي من أحكام الردة - إباحة دمه إذا كان رجلا، حرا كان أو عبدا ؛ لسقوط عصمته بالردة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «‏ ‏مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ».
وكذا العرب لما ارتدت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم »- [بدائع الصنائع 15 / 421].
وقال في موضع آخر : (ولا يقر على الردة بل يجبر على الإسلام إما بالقتل إن كان رجلا بالإجماع وإما بالحبس والضرب إن كانت امرأة عندنا). باب النكاح فصل: أن يكون للزوجين ملة..
5- ابن المنذر :
 نص على إجماع أهل العلم على قتل المرتد في "الاجماع " ص 123.
6- الصنعاني :
قال : (والحديث دليل على أنه يجب قتل المرتد وهو إجماع وإنما وقع الخلاف هل تجب استتابته قبل قتله أولا ) [سبل السلام ج 3 ص 1641].
7- بهاء الدين المقدسي :
قال: (وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتدين ) [العدة شرح العمدة ص 189].
8- ابن رجب الحنبلي :
 قال ابن رجب تعليقا على قوله صلي الله عليه وسلم "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدي ثلاث " :
(والقتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث متفق عليه بين المسلمين) [جامع العلوم والحكمة ص 132].
9- أبو عيسى الترمذي :
روى الترمذي حديث ابن عباس : « ‏... قال رَسُولِ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «‏ ‏مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ » .
 وقال عقب الحديث : « ‏والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد » .
10- الشافعي :
 قال البيهقي في معرفة السنن والآثار - (ج 13 / ص 407) :
أخبرنا أبو سعيد، حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، قال : قال الشافعي في مبسوط كلامه في وجوب قتل المرتد إذا لم يتب : (ولم يختلف المسلمون أنه لا يحل أن يفادى بمرتد بعد إيمانه، ولا يمن عليه، ولا يؤخذ منه فدية بحال، حتى يسلم، أو يقتل ).
11- الشوكاني :
قال: (قتل المرتد عن الاسلام متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في تفاصيله والأحاديث الدالة عليه أكثر من أن تحصر ) [السيل الجرار ج4 ص 372].
12- ابن عابدين :
قال عن المرتد: (فإن أسلم وإلا قتل لحديث "من بدل دينه فاقتلوه" وهذا بالإجماع لإطلاق الأدلة ) [رد المحتار على الدر المختار ج6ص361].
13-الْمُتَيْطِيُّ المالكي:
جاء في تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام - (ج 5 / ص 248)
قَالَ الْمُتَيْطِيُّ : (وأجمع أهل العلم فيما علمت أن المسلم إذا ارتد أنه يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل) .
14-ابن دقيق العيد:
قال : (الردة سبب لإباحة دم المسلم بالإجماع في الرجل، وأما المرأة ففيها خلاف).
كما نقل الإجماع على أن عقوبة المرتد القتل الخطابي، وابن سحنون، والقاضي عياض، وابن تيمية، وابن حزم، والإجـماع يرفـع الحكم إلى القطعيات.
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان :
(وإجماع المسلمين إذا وافق خبر آحاد، فبعض العلماء يقول: يصير بموافقة الإجماع له قطعياً كالمتواتر.
وأكثر الأصوليين يقولون: لا يصير قطعياً بذلك. وفرق قوم، فقالوا: إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر. أفاد القطع، وإلا فلا، وأشار إلى ذلك في (مراقي السعود) بقوله:
ولا يفيد القطع ما يوافق *** الإجماع والبعض بقطع
 ينطق وبعضهم يفيد حيث عولا عليه.. .. .. الخ .
وعلى كل حال، فلا يخفى أنه يعتضد بعمل المسلمين به).
وهذا الإجماع كما ترى نقله غير واحد من أهل العلم، وقد قال الغزالي في حد النقل الذي يقبل به الإجماع : "يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين، وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد، وهذا يقرب من وجه "[المستصفي في علم الأصول ج2 ص 468 ط مؤسسة الرسالة].
وبهذا يتضح أن قتل المرتد انعقد الإجماع على وجوبه بشكل واضح، وأن آراء بعض المعاصرين التي تطعن في حد الردة منقوضة بإجماع السابقين، والعيب قطعا في شذوذ المعاصرين لا في إجماع السابقين، وفي مثل هؤلاء يقول ابن قدامة:
(وإذا كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتها والإجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للإسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع أمته ) [المغني ج8 ص 92].
فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة ال *** مبعوث بالدين الحنيف الطاهر
ثم الصحابة عند عدمك سنة   ***   فأولاك أهل نهى وأهل بصائر
وكذاك إجماع الذين يلونهم       ***      من تابعيهم كابرا عن كابر
إجماع أمتنا وقول نبينا مثل ال    ***    نصوص لدي الكتاب الزاهر




المقدمة الثالثة
منكر الاجماع القطعي والمعلوم من الدين بالضرورة كافر
وهذه المسألة ذكرها غير واحد من أهل العلم منهم:
1-ابن عبد البر المالكي :
قال : (ومن جحد من فرائض الله عز وجل المجتمع عليها شيئا كالصلاة والصيام والزكاة والغسل من الجنابة أو دفع القرآن أو شيئا منه أو نصا مجتمعا عليه فقد كفر ) [الكافي ص 586].
2- شيخ الاسلام ابن تيمية :
قال : (والمرتد من أشرك بالله تعالى أو كان مبغضا للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ...أو أنكر مجمعا عليه إجماعا قطعيا ) [الاختيارات الفقهية ص 307].
وقال ابن تيمية رحمه الله (وكذلك قوله تعالى: {ومن يشاقـق الرسـول من بعد ما تبيّن له الهــدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} فإنهما متلازمان، فكل من شاقّ الرسول من بعد ماتبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، فإن كان يظن أنه متبع سبيل المؤمنين وهو مخطيء فهو بمنزلة من ظن أنه متبع للرسول وهو مخطيء. وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نصّ عن الرسول، فكل مسألة يُقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بيّن الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن) [مجموع الفتاوى7/ 38 ــ 39.].
3-القاضي عياض:
قال : (أكثر المتكلمين من الفقهاء والنظار في هذا الباب قالوا بتكفير كل من خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموما. وحجتهم قوله تعالى «ومن يشاقـق الرسـول من بعد ماتبيّن له الهــدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصلــه جهنم وساءت مصيراً»، وقوله صلى الله عليه وسلم «من خالف الجماعة قيد شِبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»، وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع) [الشفا جـ 2 صـ 1079].
4- ابن رجب الحنبلي :
قال : (فلو سب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو مقر بالشهادتين أبيح دمه لأنه قد ترك بذلك دينه وكذلك لو استهان بالمصحف وألقاه في القاذورات أو جحد ما يعلم من الدين بالضرورة) [جامع العلوم والحكمة ص 139].
وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان أمثلة للمعلوم من الدين بالضرورة، نذكر بعضها :
1-قال عند قوله تعالى :{وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ}.
ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به، وهو كالضروري عند عامة المسلمين.
2- قال عند قوله تعالى :{خالدين فيها ما دامت السموات والأرض}.
وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد.
3-و قال عند قوله تعالى :{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}.
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر.
4- وقال عند قوله تعالى :{وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى ٱلاٌّرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }.
وهذا الحديث المتفق عليه يدل على أن لبس الذهب لا يحل للرجال. لأنه إذا منع الخاتم منه فغيره أولى، وهو كالمعلوم من الدين بالضرورة والأحاديث فيه كثيرة.
5- وقال: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ} ـ أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا. وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة. انتهي المقصود من كلامه.
قلت: ولا يخفى أن حد الردة أولى بوصف "المعلوم من الدين بالضرورة" من بعض الأمثلة التي ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه سواء من جهة قوة الثبوت أو من جهة الشهرة والاستفاضة .
وعليه فإن هؤلاء المنكرين لحد الردة يخشى عليهم أن يكونوا بذلك منكرين لما هو معلوم من الدين بالضرورة .
وحتى لو فرضنا أن حد الردة ليس من المعلوم من الدين فهو قطعا من المشهور المنصوص الذي نص السبكي على أن إنكاره كفر فقال في جمع الجوامع: (جاحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر قطعا وكذا المشهور المنصوص وفي غير المنصوص تردد).
فحد الردة مشهور ومنصوص عليه فكل من جحده فقد عرض نفسه للتكفير .
وقد اعترف القاضي بشهرة حديث الردة فقال :
"وحديث قتل المرتد رواه جمع غفير من الصحابة، ذكرنا عددًا منهم، فهو من الأحاديث المستفيضة المشهورة."



المقدمة الرابعة
رد الأحاديث الصحيحة بدعوى مخالفة القرآن منهج المبتدعة والزنادقة
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله:
1220 - « اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم والعيب في هذه الآثار المذكورة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم، وعن التابعين لهم بإحسان فقالت طائفة : الرأي المذموم هو البدع المخالفة للسنن في الاعتقاد كرأي جهم وسائر مذاهب أهل الكلام ؛ لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث فقالوا : لا يجوز أن يرى الله عز وجل في القيامة ؛ لأنه تعالى يقول : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار فردوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنكم ترون ربكم يوم القيامة « وتأولوا في قول الله عز وجل : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) تأويلا لا يعرفه أهل اللسان ولا أهل الأثر، وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره لقول الله عز وجل أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها، وقالوا : لن يخرج من النار من فيها، وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا، ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله برأيهم وقياسهم إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفات الباري تبارك وتعالى" [ص 368].
وقال في موضع آخر:
 « ليس أحد من علماء الأمة يثبت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرده دون ادعاء نسخ ذلك بأثر مثله أو بإجماع أو بعمل يجب على أصله الانقياد إليه أو طعن في سنده، ولو فعل ذلك أحد سقطت عدالته فضلا عن أن يتخذ إماما ولزمه اسم الفسق " [ص 380].
وقال في موضع آخر:
باب فيمن تأول القرآن وتدبره وهو جاهل بالسنة قال أبو عمر : « أهل البدع أجمع أضربوا عن السنة وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا وأضلوا، ونعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة برحمته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير عن ذلك في غير ما أثر » [ص 431].
وقال الشاطبي وهو يصف منهج المبتدعة :
(ومنها ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها، كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة وكذلك حديث الذباب وقتله وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وأنه يقدم الذي فيه الداء، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلي الله عليه وسلم بسقيه العسل، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول " إلي أن قال : " وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل،
وقد سئل بعضهم هل يكفر من قال برؤية الباري عز وجل في الآخرة؟ فقال : لا يكفر، لأنه قال مالا يعقل، ومن قال مالا يعقل فليس بكافر !!
وذهبت طائفة أخرى إلى نفي أخبار الآحاد جملة والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن) [الاعتصام ج 1 ص 168].
وقال : " ومنه دعاوي أهل البدع على الأحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن أو مناقضة بعضها بعضا وفساد معانيها أو مخالفتها للعقول كما حكموا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم للمتحاكمين :
(لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها).
قالوا هذا مخالف لكتاب الله لأنه قضى بالرجم والتغريب وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر، فإن كان الحديث باطلا فهو ما أردنا وإن كان حقا فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب، ، فهذا اتباع للمتشابه لأن الكتاب في كلام العرب يصرف على وجوه منها الحكم والفرض .." [الاعتصام ج1 ص 179].
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية :
(وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنون صحتها . إما في دلالة الألفاظ . وإما في المعاني المعقولة. ولا يتأملون بيان الله ورسوله وكل مقدمات تخالف بيان الله ورسوله فإنها تكون ضلالا ولهذا تكلم أحمد في رسالته المعروفة في الرد على من يتمسك بما يظهر له من القرآن من غير استدلال ببيان الرسول والصحابة والتابعين ؛ وكذلك ذكر في رسالته إلى أبي عبد الرحمن الجرجاني في الرد على المرجئة وهذه طريقة سائر أئمة المسلمين . لا يعدلون عن بيان الرسول إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا ؛ ومن عدل عن سبيلهم وقع في البدع التي مضمونها أنه يقول على الله ورسوله ما لا يعلم أو غير الحق وهذا مما حرمه الله ورسوله . وقال تعالى في الشيطان : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } وقال تعالى : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق} وهذا من تفسير القرآن بالرأي الذي جاء فيه الحديث : { من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار }) [مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 122)].
فبان من خلال ما نقلنا أن السنة مبينة لكتاب الله وأن إلغاء السنة الثابتة بدعوى معارضتها للقرآن هو دأب طوائف المبتدعة، التي تبحث دائما عن مدخل تبرر به مذهبها وإن كلفها ذلك رد صريح الوحي .



المقدمة الخامسة


ما نقل عن إبراهيم النخعي من القول بعدم وجوب قتل المرتد مكذوب عليه
ينبغي أن يعلم أولاً أن نسبة هذا القول إلى إبراهيم النخعي أو إلى غيره من العلماء لا تقدم ولا تؤخر مادام الأمر ثابتا في السنة وانعقد عليه إجماع الأمة من عصر الصحابة، فيردّ قوله في هذه المسألة لمخالفته الأدلة الصحيحة ومازال العلماء يردون كل قول خالف نصا أو إجماعا ويحذرون منه، ومنهج الاستدلال السليم يقتضي أن تكون العبرة بالدليل لا بالقائل وقد قال مالك : ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بها، فإن وجدنا لها دليلا قبلناها وإن لم نجد ألغيناها.
وإذا لم نردّ أقوال العلماء لمخالفتها الكتاب والسنة والإجماع فمتى سنردها ؟
وليس من الدين في شيء ترك أقوال النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الواضحة من أجل قول أحد من العلماء .
ومن حسن الظن بالعلماء وخاصة التابعين الذين هم من أهل القرون الثلاثة التي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم ألا ننسب إليهم قولا يخالف الأدلة الثابتة من كتاب وسنة وإجماع إلا بعد ثبوته عنهم بالأسانيد الصحيحة ثم إذا ثبت ذلك عنهم تأولنا لهم في ذلك التأويل اللائق بهم ولا نترك الأدلة الصحيحة من أجل قولهم.
ونريد الآن أن نبحث في هذا القول الذي نسب إلى النخعي ونتحقق من صحة نسبته إليه فنقول وبالله التوفيق:
 أما الزعم بأن إبراهيم النخعي لا يقول بقتل المرتد فهذا يكذبه ما نقل عنه من القول بقتل المرتدة فقد بوب البخاري :
 ( باب حكم المرتد والمرتدة وقال ابن عمر والزهري وإبراهيم: تقتل المرتدة) والمذكور في التبويب هو إبراهيم النخعي كما ذكر ذلك ابن حجر، ثم ذكر ابن حجر الروايات التي تؤكد نسبة هذا القول إلى إبراهيم النخعي فقال :
(وأما قول الزهري وإبراهيم فوصله عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في المرأة تكفر بعد إسلامها قال: تستتاب فإن تابت وإلا قتلت، وعن معمر عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله،
 وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم،
وأخرج سعيد بن منصور عن هشيم عن عبيدة بن مغيث عن إبراهيم قال: إذا ارتد الرجل أو المرأة عن الإسلام استتيبا فإن تابا تركا وإن أبيا قتلا)
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف :
(حدثنا عبد الله بن إدريس عن هشام عن الحسن قال في المرتدة : تستتاب، فإن تابت وإلا قتلت.
حدثنا حفص عن عبيدة عن أبراهيم قال : تقتل).
وإذا كان النخعي يقول بقتل المرتدة - وهي التي اختلف العلماء في وجوب قتلها - فمعنى ذلك أنه من أشد الناس تشديدا في هذا الباب .
وما زال العلماء يذكرون عن النخعي تشديده في هذا الباب ويعدونه من القائلين بقتل المرتدة ومن أمثلة ذلك :
قال ابن عبد البر:
( واختلف الفقهاء في المرتدة فقال مالك والأوزاعي وعثمان البتي والشافعي والليث بن سعد : تقتل المرتدة كما يقتل المرتد سواء وهو قول إبراهيم النخعي وحجتهم ظاهر الحديث ) [فتح المالك بتبويب التمهيد ج8 ص 288].
وقال ابن قدامة :
(لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وبه قال الحسن والزهري والنخعي ومكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق) [المغني ج8 ص 86].
قال في مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر :
 ( والمرأة ) إذا ارتدت ( لا تقتل ) عندنا حرة كانت أو أمة ( بل تحبس ) إن أبت ولو صغيرة فتطعم كل يوم لقمة وشربة وتمنع من سائر المنافع ( حتى تتوب ) أي تسلم أو تموت وعند الأئمة الثلاثة والليث والزهري والنخعي والأوزاعي ومكحول وحماد تقتل لقوله عليه الصلاة والسلام: { من بدل دينه فاقتلوه } وكلمة من تعم الرجال والنساء). [مجمع الأنهر - (4 / 383)].
ثم بين ابن حجر ضعف القول الذي نسب إلى إبراهيم النخعي في أن المرتد لا يقتل فقال: ( وأخرج ابن أبي شيبة عن حفص عن عبيدة عن إبراهيم: لا يقتل. والأول أقوى فإن عبيدة ضعيف، وقد اختلف نقله عن إبراهيم).
أما ما نقل عنه من أنه قال باستتابة المرتد أبدا فقد قال ابن حجر في فتح الباري :
( وعن النخعي يستتاب أبداً كذا نقل عنه مطلقاً، والتحقيق أنه في من تكررت منه الردة). انتهي
والحافظ ابن حجر يعني بذلك أن إبراهيم النخعي إنما قال : من تكررت منه الردة يستتاب كلما تكررت منه، ردا على الذين قالوا يستتاب المرتد ثلاث مرات فقط فإن تكررت منه الردة أربع مرات قتل دون استتابة، ويشهد لهذا ما قاله ابن جرير :
(القول في تأويل قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً }..وقد ذهب قوم إلى أن المرتدّ يستتاب ثلاثا انتزاعا منهم بهذه الاَية، وخالفهم على ذلك آخرون. ذكر من قال يستتاب ثلاثا:
8510ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبيّ، عن عليّ عليه السلام، قال: إن كنت لمستتيب المرتدّ ثلاثا. ثم قرأ هذه الاَية: {إنّ الّذينَ آمَنُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا}.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن عليّ رضي الله عنه: يستتاب المرتدّ ثلاثا، ثم قرأ: {إنّ الّذِينَ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ آمَنُوا ثُمّ كَفَرُوا ثُمّ ازْداداوا كُفْرا}.
8511ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر، قال: يستتاب المرتدّ ثلاثا.
وقال آخرون: يستتاب كلما ارتدّ. ذكر من قال ذلك:
8512ـ حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم، قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتد.
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتدّ يستتاب المرة الأولى، الدليل الواضح على أن الحكم كل مرّة ارتدّ فيها عن الإسلام حكم المرّة الأولى في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حقن له دمه لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه محقونا في الحالة الأولى ثم يكون دمه مباحا مع وجودها، إلا أن يفرق بين حكم المرّة الأولى وسائر المرّات غيرها ما يجب التسليم له من أصل محكم، فيخرج من حكم القياس حينئذٍ.) [تفسير ابن جرير الطبري].
وروى البيهقي في سننه :
 ( أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس الأصم ثنا بحر بن نصر ثنا عبد الله بن وهب أخبرني سفيان الثوري عن رجل عن عبد الله بن عبيد بن عمير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استتاب نبهان أربع مرات وكان نبهان ارتد قال سفيان وقال عمرو بن قيس عن رجل عن إبراهيم أنه قال: المرتد يستتاب أبدا كلما رجع. قال بن وهب: وقال لي مالك ذلك أنه يستتاب كلما رجع هذا منقطع وروي من وجه آخر موصولا وليس بشيء) [سنن البيهقي الكبرى - (8 / 197)].
فلفظ الاستتابة أبدا المقصود قبول التوبة ممن تكررت ردته كما قال القاضي عياض :
(وكذلك يستتاب أبدا كلما رجع وارتد وقد استتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبهان الذى ارتد أربع مرات أو خمسا قال ابن وهب عن مالك يستتاب أبدا كلما رجع وهو قول الشافعي وأحمد ) [الشفا بتعريف حقوق المصطفى - (2 / 260)].
وبهذا يظهر لك مدى الفهم السقيم للقرضاوي عندما قال :
(وبعضهم قال يستتاب أبدا، الإمام النخعي والإمام الثوري قالوا يستتاب أبدا، نفضل كل شوية نرجع نقول له إيه إيش رأيك ونحبسه.. ففي يعني مجال للاجتهاد في هذا الأمر) [الشريعة والحياة، حلقة بتاريخ : الثلاثاء 30/11/2010 م].
وبمثل هذه الاستنتاجات العليلة تساق الجماهير العريضة من الإخوان إلى البدعة والميوعة والانحراف !!
ثم إن إبراهيم النخغي روى حديث : "لايحل دم امريء مسلم إل بإحدى ثلاث ..."
حيث روى مسلم في صحيحه:
4377- حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن المثنى واللفظ لأحمد قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال :
قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر التارك الإسلام المفارق للجماعة أو الجماعة شك فيه أحمد والثيب الزاني والنفس بالنفس).
قال الأعمش فحدثت به إبراهيم فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله‏ .
 وأخرج النسائي في سننه :
4027-أخبرنا إسحاق بن منصور قال : أنبأنا عبد الرحمان عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي لا إله غيره لا يحل دم امريء مسلم...) الحديث.
4028-قال الاعمش : فحدثت به إبراهيم فحدثني عن الأسود عن عائشة بمثله. انتهي من سنن النسائي .
وهذه الرواية ذكرها ابن حجر في الفتح من طريق آخر عندما تكلم على هذا الحديث فقال : -قال الطيبي المارق في رواية الثوري المفارق للجماعة وزاد: قال الأعمش فحدثت بهما إبراهيم يعني النخعي فحدثني عن الأسود يعني ابن يزيد عن عائشة بمثله.
ورواها البيهقي في السنن الكبري والدارقطني في السنن برقم 3134 وأبوعوانة في مستخرجه (4989).
وقد روى أيضا منصور عن إبراهيم عن ابي معمر عن مسروق عن عائشة نحوه، وذلك في سنن الدارقطني(3138)و(3140) .
قلت: كيف يتصور من إبراهيم النخعي إنكار حد الردة وهو أحد رواة حديثه !!
والأعمش ومنصور حين رويا الحديث عن النخعي لم يحكيا عنه مخالفة له!
وحتى لو خالفه فإن رواية الراوي مقدمة على رأيه كما هو معلوم، وكما قيل: "العبرة بما روى، لا بما رأى".
وبهذا يتضح أن القول الثابت عن إبراهيم النخعي هو القول بقتل المرتد والمرتدة، وأن ما نقل عنه من القول بعدم وجوب قتل المرتد ضعيف.
وأن القول المروي عنه في استتابة المرتد أبدا المقصود به كلما تكررت منه الردة، وهذا هو الذي تؤيده الروايات وتدعمه الأدلة وهو اللائق بمنزلة إبراهيم النخعي.
وإلا فكيف يتصور من هذا التابعي الجليل أن يخالف الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يتورع عن الفتوى بالتحريم والتحليل فقد أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلال ولا حرام ولكن كان يقول: كانوا يكرهون وكانوا يستحبون.
ومما يدل على تمسك إبراهيم بكل ما بلغه من السنة ما روه أيضا الإمام الدارمي:
باب الرجل يفتي بشيء ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيرجع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
641 - أخبرنا قبيصة ثنا سفيان عن الأعمش قال كان إبراهيم يقول: يقوم عن يساره. فحدثته عن سميع الزيات عن ابن عباس : ان النبي صلى الله عليه وسلم أقامه عن يمينه، فأخذ به.
قال حسين سليم أسد : إسناده صحيح
وكان لشدة ورعه يكره القصص كما روى عنه ابن كثير في تفسيره قال:
وقال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}
وقوله: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون}.
 وقوله إخباراً عن شعيب: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.
وكيف يظن بإبراهيم النخعي أن يرد حديثا أو يأوله عن ظاهره وهو الذي كان يتبع النصوص اتباعا حرفيا حتى إنه قال إن وضع "العلقة" يعطي حكم الوضع فتنقضي به عدة الحامل وتصير به الأمة أم ولد نقل ذلك عنه ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام والشنقيطي في أضواء البيان.
ومما يدل على حرصه على التمسك بظواهر النصوص رأيه في مسألة الظفر حيث أورد الشنقيطي رأيه في أضواء البيان فقال :
أصح القولين، وأجراهما على ظواهر النصوص وعلى القياس: أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة. لقوله تعالى في هذه الآية: {فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} الآية، وقوله: {فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}.
وممن قال بهذا القول: ابن سيرين وإبراهيم النخعي، وسفيان ومجاهد، وغيرهم.انتهي
وكيف يعارض إبراهيم النخعي حديث النبي صلي الله عليه وسلم بقوله وهو الذي فسر قوله تعالى: {لا تبديل لخلق الله} أي لا تبديل لدين الله كما روى ذلك عنه ابن كثير في تفسيره
وكيف يخالف الإجماع ويجادل في أمر معلوم من الدين بالضرورة وهو الذي فسر قوله تعالى: {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء} قال الخصومات والجدال في الدين كما روى ذلك عنه ابن كثير وابن أبي حاتم.
وكيف يقول إبراهيم النخعي بإسقاط حد الردة وهو الذي نقل عنه ابن كثير تفسير قوله تعالى {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} قال : لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله فتعطلوا الحدود ولا تقيموها .
وما أحوج هؤلاء الذين ينسبون هذا القول إلى إبراهيم النخعي أن يمتثلوا مقولة عيسى ابن مريم التي رواها الخرائطي عن إبراهيم النخعي وكان يرددها:
خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق، كونوا منتقدي الكلام كي لا يجوز عليكم الزيوف.
وقد قال محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان: ولا عبرة أيضاً بقول إبراهيم النخعي: إن في قتل الفأرة جزاء لمخالفته أيضاً للنص، وقول عامة العلماء).
ومثل هذه الأقوال الظاهرة الضعف ينبغي أن تهمل ولا تنشر بين الناس، لأن ترويجها ترويج للباطل .
قال ابن القيم : فالواجب على من شرح الله صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلدها بل يسكت عن ذكرها إن تيقن صحتها (أي نسبتها إليه) وإلا توقف في قبولها فكثيرا ما يحكي عن الأئمة مالا حقيقة له" [إعلام الموقعين ج3 ص209].
قال القرافي : "كل شيء أفتي فيه المجتهد فخرجت فتياه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله فإن هذا لو حكم به حاكم لنقضناه
وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولي أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا والفتيا بغير الشرع حرام فالفتيا بهذا الحكم حرام " [الفروق للقرافي ج2 ص109].
وجدير بالقرضاوي وأتباعه الذين يحتجون بهذا القول المنسوب إلى النخعي ويتركون الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعتبروا بما رواه الترمذي في سننه قال:
907-سمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله صلي الله عليه وسلم ويقول أبو حنيفة الاشعار مثلة!!، قال الرجل : فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال : الاشعار مثلة، قال فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا وقال: أقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال إبراهيم !! ما أحقك بأن تحبس فلا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا .
قال ابن القيم :( وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله .) [إعلام الموقعين ج2 ص 476].
أما نسبة هذا القول إلى الثوري فلم أجد فيها غير ما رواه عبد الرزاق في المصنف :
18697 – (أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن عمرو بن قيس عن إبراهيم قال في المرتد يستتاب أبدا قال سفيان هذا الذي نأخذ به) [مصنف عبد الرزاق-(10/166)].
فقد تابع النخعي في القول باستتابة المرتد أبدا، وقد عرفت معنى الاستتابة أبدا، ومن عرف منزلة سفيان الثوري وأنه أمير المؤمنين في الحديث وعرف قدره في الزهد والخشية علم بيقين أنه لا يمكن أن يكون ممن يعارضون السنن الثابتة .



المقدمة السادسة


لا تعارض بين حد الردة وآية "لا إكراه في الدين"
زعم الدكتور أحمد الريسوني في مقاله "حد الردة والاشكال الأصولي" أن آية :{ لا إكراه في الدين} آية عامة غير خاصة ومحكمة غير منسوخة وأنها قاعدة كلية متناقضة مع كل الأحاديث الواردة في حد الردة !
ويتضح بطلان كلامه من عدة أوجه :
الوجه الأول:
أن معنى الآية اختلف فيه على ستة أقوال :                               
المعنى الأول :
 نفي إكراه الله تعالى العباد على الدين، فيكون معنى الآية الإخبار أن إرادة الله القدرية ليس فيها الإكراه على الدين وممن حكى ذلك :
1- تفسير الرازي:
( معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار) .
2- الكشاف :
({ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } أي لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار . ونحوه قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي لو شاء لقسرهم على الإيمان ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار).
3- تفسير البحر المحيط :
(وقال أبو مسلم، والقفال : معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ويدل على هذا المعنى أنه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً، قال بعد ذلك : لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء) .
المعنى الثاني :
 أن الدين المعتبر لا يحصل بالإكراه بل لابد فيه من شروح الصدر وانعقاد القلب وممن حكى ذلك :
1- تفسير ابن عرفة :
قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين . . . } .
نقل ابن عرفة عن ابن عطية الخلاف في سبب نزولها ثم قال : الظاهر عندي ( أنّها ) على ظاهرها ويكون خبرا في اللفظ والمعنى . والمراد أنه ليس في الاعتقاد إكراه وهو أولى من قول من جعلها خبرا في معنى النّهي .
2- تفسير النيسابوري :
(ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله { لا إكراه في الدين } كما قال صلى الله عليه وسلم : « ليس الدين بالتمني » مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو الإجبار، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً والتسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن) .
3- زاد المسير :
(وقال ابن الأنباري : معنى الآية : ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب) .
المعنى الثالث :
 لا تنسبوا إلي الكراهة من دخل الدين تحت السيف وممن حكى ذلك :
1- تفسير الرازي :
(لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصح إسلامه فليس بمكره، ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه، ونظيره قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً }[ النساء : 94 ] ).
2- تفسير البحر المحيط :
(وقال الزجاج : لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً، يقال : أكفره نسبه إلى الكفر . قال الشاعر :
وطائفة قد أكفروني بحبهم ... وطائفة قالوا : مسيء ومذنب).
المعنى الرابع :
 أن الإيمان لا يحتاج إلى الإكراه لوضوحه وممن حكى ذلك :
1- تفسير أبي السعود :
({ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } جملةٌ مستأنفة جِيء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشؤون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقلِ ألا يحتاجَ إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم).
2- تفسير البيضاوي :
({ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } إذ الإِكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه، ولكن { قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } تميز الإِيمان من الكفر بالآيات الواضحة، ودلت الدلائل على أن الإِيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبدية والكفر غي يؤدي إلى الشقاوة السرمدية، والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الإِيمان طلباً للفوز بالسعادة والنجاة، ولم يحتج إلى الإِكراه والإِلجاء).
المعنى الخامس :
أن الإكراه على الدين ليس إكراها وممن حكى ذلك :
1- تفسير الألوسي :
({ لا إِكْرَاهَ فِى الدين } ...هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه والدين خير كله، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراهاً حقيقياً ).
المعنى السادس :
 لا تكرهوا أحدا على الدخول في الدين وممن حكى ذلك :
1-‏ تفسير ابن كثير :
( { لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين } أي: لا تكرهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام فإنه بين واضح جلي دلائله وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورًا).
الوجه الثاني :
أن الآية خاصة فيمن أعطى الجزية وقد ورد ذلك عن بعض التفاسير منها :
1- تفسير أبي السعود :
(وقيل : خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالم بن عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه عليه السلام ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال : والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما).
2- تفسير البحر المحيط :
( وقال قتادة، والضحاك : هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، قالا : أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية . ومذهب مالك : أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب) .
3- تفسير القرآن لعبد الرزاق الصنعاني :
 ( - عبد الرزاق قال : نا معمر، عن قتادة، في قوله تعالى : ( لا إكراه) قال : كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف، قال : « ولا يكره اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي إذا أعطوا الجزية »).
الوجه الثالث :
 أن الآية منسوخة وممن نقل ذلك :
1-تفسير البحر المحيط :
({ لا إكراه في الدين }
واختلف أهل العلم في هذه الآية : أهي منسوخة؟ أم ليست بمنسوخة؟ فقيل : هي منسوخة، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، ).
2- زاد المسير :
(وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد).
3- تفسير الثعالبي :
(قوله تعالى : { لا إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } : الدِّينُ، في هذه الآية : هو المُعْتَقَدُ، والمِلَّة، ومقتضى قولِ زَيْدِ بن أسْلَمَ أن هذه الآية مكِّيَّة، وأنها من آيات الموادَعَة الَّتي نسخَتْها آية السَّيْف).
4-الدر المنثور :
(وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر « عن السدي في قوله { لا إكراه في الدين } قال : نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا، فرجعا إلى الشام معهم، فأتى أبوهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ابني تنصرا وخرجا فاطلبهما؟ فقال: { لا إكراه في الدين } ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال : أبعدهما الله، هما أول من كفر، فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم . . . } [ النساء : 65 ] الآية . ثم نسخ بعد ذلك { لا إكراه في الدين } وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة » .
- وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله: { لا إكراه في الدين } قال : نسختها { جاهد الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ]).
***
وبهذا يتضح أن الآية مختلف في معناها ومختلف في إحكامها ومختلف في عمومها، وما كان كذلك فكيف يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ؟
وكيف يكون قاعدة كلية ؟
الوجه الرابع :
أن الذين يزعمون التعارض بين قتل المرتد وآية: { لا إكراه في الدين } يريدون أن ينسخوا أحاديث قتل المرتد الخاصة بآية "لا إكراه في الدين" العامة، وقد تقرر أن الخاص لا ينسخ بالعام، يقول ابن رجب :
(الخاصَّ لا يُنْسَخُ بالعامِّ، ولو كان العام متأخراً عنه في الصحيح الذي عليه جمهور العلماء ؛ لأنَّ دلالة الخاصِّ على معناه بالنصِّ، ودلالة العام عليهِ بالظاهر عندَ الأكثرين، فلا يُبطِلُ الظاهرُ حكمَ النص) [جامع العلوم والحكمة ص 140].
الوجه الخامس:
أن الآية عامة وأحاديث قتل المرتد خاصة ولا تعارض بين الخاص والعام كما قال الشاطبي:
(وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن، فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني أو بين ظنيين، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ولا يمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال، فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني، وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح، والعمل بالأرجح متعين، وإن أمكن الجمع فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع، وإن كان وجه الجمع ضعيفا، فإن الجمع أولى عندهم وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا إما جهلا به أوعنادا ) [الاعتصام ج 1 ص 180].
فقوله تعالى: { لا إكراه في الدين } مخصص بأحاديث قتل المرتد، وقد تقرر أن السنة تخصص القرآن.
قال ابن القيم : ( تخصيص القران بالسنة جائز كما أجمعت الامة على تخصيص قوله تعالى: { وأحل لكم ما وراء ذلكم } بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) وعموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} بقوله صلى الله عليه وسلم (لا يرث المسلم الكافر) وعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} بقوله صلى الله عليه وسلم (لا قطع في ثمرولاكثر) ونظائر ذلك كثيرة) [إعلام الموقعين ج2 ص 536].
والمصير إلى هذا القول متعين لأن فيه جمعا بين الدليلين وهو أولى من إلغاء أحدهما،
قال الشنقيطي في أضواء البيان :
(إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات).
وقال في المراقي :
والجمع واجب متى ما أمكنا *** إلا فللأخير نسخ بينا
والعلماء يفرقون بين نوعين من الإكراه كما قال شيخ الاسلام:
(والإكراه قد يكون إكراها بحق وقد يكون إكراها بباطل . ( فالأول : كإكراه من امتنع من الواجبات على فعلها مثل إكراه الكافر الحربي على الإسلام أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون وإكراه المرتد على العود إلى الإسلام وإكراه من أسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) [مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 245)].
وقال الباجي في المنتقي شرح المطا:
(وليس في استتابة المرتد تخويف ولا تعطيش في قول مالك ووجه قول مالك :أن هذا إكراه بنوع من العذاب فلم يؤخذ به في مدة الإستتابة كالضرب وقطع الأعضاء).
وتقسيم الإكراه إلى مشروع وغير مشروع دليل على أن أهل العلم لا يرون تعارضا بين الآية وأحاديث الردة وأن الجمع بينهما ممكن . فهل يمكن أن يكون المعاصرون أكثر فهما لكتاب الله من الصحابة والتابعين وسائر العلماء السابقين ؟!



المقدمة السابعة


أثر عمر يعني إنكار ترك الاستتابة لا إنكار قتل المرتد:
زعم جميل منصور في هذه المقابلة أن عمر بن الخطاب تبرأ من الصحابة الذين أقاموا حد الردة في من ارتد وقال لهم : (لو أتيتموني به لاستتبته ثلاثة أيام فإن لم يتب أو دعته السجن).
وفي هذا الكلام تخليط وتلبيس حيث جمع صاحبه بين استتابة ثلاثة أيام وإيداع السجن في لفظ واحد
 ليوهم السامع بأنهما متغايران والواقع أن إيداع السجن المذكور المراد به استتابة ثلاثة أيام، وروايات الأثر المختلفة عبرت كل منها بإحدى اللفظتين عن الأخري، ولم يرد في شيء من طرق الأثر ورواياته الجمع بين العبارتين على نحو ما فعل جميل منصور..
 وطرق الأثر ورواياته جاءت في قصتين :
القصة الأولى:
1- قال في الموطأ :
– (وحدثني مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القارىء عن أبيه أنه قال : قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر هل كان فيكم من مغربة خبر فقال نعم رجل كفر بعد إسلامه قال فما فعلتم به قال قربناه فضربنا عنقه فقال عمر أفلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر اللهم اني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني).
ورواه الشافعي في الأم حديث 443.
2- روى ابن أبي شيبة:
عن ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال : لما قدم على عمر فتح تستر - وتستر من أرض البصرة - سألهم : هل من مغربة، قالوا : رجل من المسلمين لحق بالمشركين فأخذناه، قال : ما صنعتم به ؟ قالوا : قتلناه، قال : أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثم استتبتموه ثلاثا، فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال : اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني - أو قال : حين بلغني.) مصنف ابن أبي شيبة - (167) في المرتد عن الاسلام، ما عليه ؟ (ج 6 / ص 584) .
3- روى البيهقي :
عن مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد القارى عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال عمر رضى الله عنه: فهلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله أن يتوب أو يراجع أمر الله اللهم إني لم احضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني) السنن الكبرى للبيهقي - باب من قال يحبس ثلاثة أيام. (ج 8 / ص 206).
4- وروى ابن عبد البر في التمهيد بإسناده:
عن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله بن عبد القاري عن أبيه قال: قدم وفد من أهل البصرة على عمر فأخبروه بفتح تستر فحمد الله ثم قال: هل حدث فيكم حدث ؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين إلا رجل ارتد عن دينه فقتلناه، قال: ويلكم أعجزتم أن تطبقوا عليه بيتا ثلاثا ثم تلقوا له كل يوم رغيفا فإن تاب قبلتم منه وإن أقام كنتم قد أعذرتم إليه اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذ بلغني ) فتح المالك بتبويب التمهيد (ج8 ص286).
5- وروى عبد الرزاق في المصنف :
(18695) - عن معمر قال : أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن عبد القاري عن أبيه قال : قدم مجزأة بن ثور- أو شقيق بن ثور - على عمر يبشره بفتح تستر، فلم يجده في المدينة، كان غائبا في أرض له، فأتاه، فلما دنا من الحائط الذي هو فيه كبر، فسمع عمر رضي الله عنه تكبيره فكبر، فجعل يكبر هذا وهذا حتى التقيا، فقال عمر : ما عندك ؟ قال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ! إن الله فتح علينا تستر، وهي كذا وهي كذا، وهي من أرض البصرة - وكان يخاف أن يحولها إلى الكوفة فقال : نعم ! هي من أرض البصرة، هيه ! هل كانت مغربة تخبرناها ؟ قال : لا، إلا أن رجلا من العرب ارتد، فضربنا عنقه، قال عمر : ويحكم ! فهلا طينتم عليه بابا، وفتحتم له كوة، فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا، وسقيتموه كوزا من ماء ثلاثة أيام، ثم عرضتم عليه الاسلام في اليوم الثالث، فلعله أن يراجع، ثم قال : اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أعلم).
القصة الثانية :
1- روى البيهقي :
(عن أنس بن مالك قال: لما نزلنا على تستر - فذكر الحديث في الفتح وفي قدومه على عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال عمر: يا أنس ما فعل الرهط الستة من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين قال فأخذت به في حديث آخر ليشغله عنهم قال ما فعل الرهط الستة الذين ارتدوا عن الإسلام فلحقوا بالمشركين من بكر بن وائل قال يا أمير المؤمنين قتلوا في المعركة قال إنا لله وإنا إليه راجعون قلت يا أمير المؤمنين وهل كان سبيلهم إلا القتل قال نعم كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الإسلام فإن أبوا استودعتهم السجن (وبمعناه) رواه أيضا سفيان الثوري عن داود بن أبى هند) السنن الكبرى للبيهقي - (ج 8 / ص 207):
2-وفي مصنف عبد الرزاق :
(18696) - أخبرنا عبد الرزاق عن الثوري عن داود عن الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال : بعثني أبو موسى بفتح تستر إلى عمر رضي الله عنه، فسألني عمر - وكان ستة نفر من بني بكر بن وائل قد ارتدوا عن الاسلام ولحقوا بالمشركين - فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟ قال : فأخذت في حديث آخر لاشغله عنهم،
فقال : ما فعل النفر من بكر بن وائل ؟
قلت : يا أمير المؤمنين ! قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين، ما سبيلهم إلا القتل،
 فقال عمر : لان أكون أخذتهم سلما أحب إلي مما طلعت عليه الشمس من صفراء أو بيضاء،
قال : قلت : يا أمير المؤمنين ! وما كنت صانعا بهم لو أخذتهم ؟
 قال : كنت عارضا عليهم الباب الذي خرجوا منه أن يدخلوا فيه، فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن).
وكما هو واضح فقد عبرت الروايات في السياق الأول باستتابة ثلاثة أيام في حين عبرت الروايات في السياق الثاني بإيداع السجن وفي هذا دليل واضح على أنهما غير متغايرين وأن عمر أراد بإيداعهم السجن استتابتهم ثلاثة أيام وقتلهم بعد انقضائها،
وقد صرح بذلك في رواية مصنف ابن أبي شيبة :
 (حدثنا ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه قال : لما قدم على عمر فتح تستر - وتستر من أرض البصرة - سألهم : هل من مغربة، قالوا : رجل من المسلمين لحق بالمشركين فأخذناه، قال : ما صنعتم به ؟ قالوا : قتلناه، قال : أفلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتوه كل يوم رغيفا ثم استبتموه ثلاثا، فإن تاب وإلا قتلتموه، ثم قال : اللهم لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذا بلغني - أو قال : حين بلغني.) مصنف ابن أبي شيبة - (30) ما قالوا في المرتد كم يستتاب ؟ (ج 7 / ص 599).
وهذا يدل على أنه أنكر ترك الاستتابة ولم ينكر القتل .
 والعلماء يوردون هذا الأثر للإستشهاد به في مسألة استتابة المرتد،
ومن أمثلة ذلك :
1- ابن عبد البر :
قال في التمهيد : وقال آخرون يستتاب شهرا، وقال آخرون يستتاب ثلاثا على ما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود ثم ذكر أثر محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال قدم على عمر ابن الخطاب رجل من قبل أبي موسي ... الحديث .
 ثم ذكر رواية أخرى لهذا الأثر مسندة من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله القاري عن أبيه .
ثم روى عن داود ابن هند عن الشعبي عن أنس بن مالك أن نفرا من بني بكر ابن وائل ...الحديث.
ثم قال :
(وروى أبو معاوية عن الأعمش عن أبي عمر الشيباني أن عليا أتي بالمستورد العجلي وقد ارتد عن الإسلام فاستتابه فأبي أن يتوب فقتله.
وروى عبادة عن العلاء ابن أبي محمد أن عليا أخذ رجلا من بكر بن وائل تنصر بعد الإسلام فعرض عليه الإسلام شهرا فأبى فأمر بقتله "ولا أعلم بين الصحابة خلافا في استتابة المرتد) فتح المالك بتبويب التمهيد (ج8 ص286).
فالحديث كله كما ترى منصب حول استتابة المرتد من بدايته إلى نهايته وفي هذا الإطار أورد ابن عبد البر أثر عمر برواياته كلها وبسياقيه الذين ذكرناهما للتدليل على استتابة المرتد، وهذا يدل على أنه فهم من السجن الذي ذكر عمر بن الخطاب سواء في قصة النفر الستة أو في قصة صاحب تستر أنه السجن للإستتابة لا لإسقاط عقوبة القتل، فهذا لم يكن يخطر لهم على بال .
وقال ابن عبد البر أيضا في "الاستذكار" شارحا معنى قول عمر: (فإن فعلوا ذلك قبلت منهم، وإلا استودعتهم السجن) :
"قال أبو عمر يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا، فان لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاضربوا عنقه)".
2- ابن قدامة :
 ذكر ابن قدامة أثر عمر هذا في سياق الحديث عن استتابة المرتد ثم قال بعده :
(ولو لم تجب استتابته لما بريء من فعلهم ولأنه أمكن استصلاحه فلم يجز إتلافه قبل استصلاحه) [المغني ج 8 ص 88].
وكلام ابن قدامة هذا يدل على أن عمر إنما أنكر عليهم قتل المرتد قبل استتابته لا أنه أنكر عليهم مجرد قتله .
ودم المرتد إما أن يكون معصوما أو هدرا، ولو كان معصوما لعاقبهم عمر على قتله أو دفع ديته ولم يقتصر على مجرد البراءة من فعلهم، وهذا الانكار دليل على أنهم لم يسفكوا دما محرما وإنما تعجلوا فقتلوه قبل الاستتابة.
كما قال في بدائع الصنائع: (فإن قتله إنسان قبل الاستتابة يكره له ذلك ولا شيء عليه لزوال عصمته بالردة).
وفي مصنف عبد الرزاق - (ج 9 / ص 418).
(17850) - عبد الرزاق عن الثوري قال : وإذا قتل المرتد قبل أن يرفعه إلى السلطان، فليس على قاتله شئ.
3- الحافظ ابن حجر:
تكلم عن خلاف العلماء في استتابة المرتد ثم قال:
 (واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالإجماع يعني السكوتي لأن عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام وأطعمتموه في كل يوم رغيفاً لعلة يتوب فيتوب الله عليه؟ قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " أي إن لم يرجع، ولم ينكر ذلك أحد) [فتح الباري- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم].
4- الباجي :
قال في المنتقي شرح الموطأ تعليقا على هذا الأثر:
( لكن عمر رضي الله عنه فهم منه ترك الاستتابة والمسارعة إلى قتله بنفس كفره وقد احتج أصحابنا على وجوب استتابته بقول عمر هذا).
ولهذا قال الشافعي في تبويب هذا الأثر : من لا يتأنى بالمرتد كما نقل ذلك البيهقي في السنن الكبرى - (ج 8 / ص 206):
(قال الشافعي في الكتاب من قال لا يتأنى به زعم ان الحديث الذى روى عن عمر رضى الله عنه لو حبستموه ثلاثا ليس بثابت لانه لا يعلم متصلا وان كان ثابتا كان لم يجعل على من قتله قبل ثلاث شيئا (قال الشيخ) رحمه الله قد روى في التأني به حديث آخر عن عمر رضى الله عنه باسناد متصل).
وهذه النقول كلها تدل على أن عمر لم يقصد الإنكار على القتل وإنما قصد الإنكار على ترك الإستتابة.
وقد يكون وجه استنكاره أيضا قتل المرتد دون الرجوع إليه لأن تطبيق الحدود من وظائف الإمام،
وقد ورد في مصنف ابن أبي شيبة :
(191) الدم يقضي فيه الأمراء :
(حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع عن مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال : كتب عمر إلى امراء الاجناد أن لا تقتل نفس دوني).
قلت : والمعروف عن عمر رضي الله عنه مسارعته إلى قتل المرتدين، ولهذا قال في قصة حاطب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، البخاري ( 2785 )- ومسلم ( 4550 ) .
وفي رواية فقال عمر رضي الله عنه: ( فاخترطت سيفي ثم قلت يا رسول الله أمكني من حاطب فإنه قد كفر ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ( رواه أبو يعلى فى الكبير والبزار والطبراني في الأوسط باختصار ورجالهم رجال الصحيح ) ( 9/ 500).
 وروى ابن كثير في تفسيره قال:
قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضمرة، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضي عليه: لا أرضى، فقال صاحبه: فما تريد ؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي، فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى صاحبه أن يرضى، فقال: نأتي عمر بن الخطاب، فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، فسأله عمر بن الخطاب فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله، فأنزل: {فلا وربك لا يؤمنون} الاَية.
وقد ذكرنا في المسألة الأولى رواية عبد الرزاق في المصنف :
(18707) - عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: أخذ ابن مسعود قوما ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه : أن اعرض عليهم دين الحق، وشهادة أن لا إله إلا الله، فإن قبلوها فخل عنهم، وإن لم يقبلوها فاقتلهم، فقبلها بعضهم فتركه، ولم يقبلها بعضهم فقتله).
وروى ابن ابي شيبة في المصنف :
 (حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال : كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن رجلا تبدل بالكفر بعد الإيمان، فكتب إليه عمر : استتبه، فإن تاب فاقبل منه، وإلا فاضرب عنقه). [مصنف ابن أبي شيبة - (12 / 269)].
وهذا دليل على أن عمر رضي الله عنه لم يكن يتهاون بحد الردة أو يرى جواز إسقاطه.
تنبيه:
في كتابه "جريمة الردة وعقوبة المرتد" زعم القرضاوي أن معنى هذا الأثر أن عمر لم ير عقوبة القتل لازمة للمرتد في كل حال وأنها يمكن أن تسقط أو تؤجل إذا دعت الضرورة إلى ذلك وأن الضرورة التي اقتضت ذلك في هذه الرواية كما يتبين من سياقها حالة الحرب وخوف التحاقهم بالمشركين وزعم أن ذلك جاء من عمر قياسا على ما ورد عن النبي صلي الله عليه وسلم من ترك قطع الأيدي في الغزو خشية أن تدرك السارق الحمية فيلحق بالمشركين .
وهذا التأويل الذي زعمه القرضاوي باطل من سبعة أوجه :
الأول : يمتنع أن يكون الباعث لمقولة عمر خشية التحاقهم بالمشركين لأن هذا صدر منه بعد مقتلهم وحينها لا يتصور التحاقهم بالمشركين .
الثاني : أن عمر رضي الله عنه صرح بأنه أراد استتابتهم من أجل رجوعهم عن الردة فقال : "كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه " وفي الرواية الأخرى "هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا لعله يتوب ويرجع ".
الثالث : تحديد عمر الاستتابة بثلاثة أيام دليل على أنه لم يرد إلا حصول الاستتابة ولو كان الأمر يتعلق بخشية التحاقهم بالمشركين لجعل غاية الاستتابة إلى الرجوع من الغزو .
الرابع : أن هؤلاء الرهط لم يقتلوا إلا بعد أن لحقوا بالمشركين كما صرح بذلك أنس فقال : "ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين " بل صرح في رواية البيهقي السابقة بأنهم "قتلوا في المعركة" وذلك دليل واضح على أنهم لحقوا بالمشركين.
الخامس: أن المرتد يختلف عن السارق في هذا الأمر لأن السارق يرجي بقاؤه مع المسلمين لأنه مازال منهم بخلاف المرتد فإنه يفارق المسلمين بعد ردته ولا معنى لبقائه معهم.
السادس : أن قتلهم أبلغ من السجن في منعهم من اللحاق بالمشركين .
وأثر عمر هذا هو كل ما استطاع القرضاوي إيجاده من مستند يدفع به حد الردة المجمع عليه .
السابع : أن عمر رضي الله عنه كان يرى إقامة الحد في الغزو :
 قال البيهقي : (وروينا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة بإقامة الحد على أبي جندل وصاحيبه في شرب الخمر، وكانوا بإزاء العدو) [السنن الصغرى للبيهقي - (8 / 61)].



الفصل الثاني


الرد على كلام جميل منصور

وبعد بيان هذه المسائل التي ذكرت أشرع في الرد على بعض العبارات والأفكار التي وردت في المقابلة:
نص المقابلة:
تقدمي: وما هو موقفكم من الحدود الإسلامية من قطع يد ورجم وإعدام ومما يثار حول حد الردة خصوصا، واجتهادات بعض المفكرين؟
جميل: هو المشكلة أنه في مجال التعامل مع الظاهرة الإسلامية نحن دائما أمام ما يسميه الأستاذ منير سفير في كتابه ردود على أطروحات علمانية الحجة ونقيض الحجة حينما لا يجتهد الإسلاميون ويكثرون من الإجتهادات فقها وفكرا نقول هذا تزمت وتعصب وعدم تجديد، وحينما يكثرون من الاجتهادات أيضا نستغرب ذلك ونحاول أن ننسبه إلى عدم الإنضباط وعدم وضوح المرجعية، أنا أعتقد أن من خصائص الفكر والفقه الإسلاميين هو هذه المرونة، وبتالي دكتور أحمد الريسوني الذي اجتهد في موضوع حد الردة بالمناسبة هو من ضمن جماعة من العلماء المسلمين من بينهكم ابراهيم النخعي، ويقوم على تفسير حد الردة بأنه حد تعزيري بناءا على تقدير أمني وليس عقوبة لتغيير الدين.
أنه مرتبط بمرحلة معينة، كانت جماعات من اليهود تدخل الدين أول النهار وتتركه آخره لعلها ترجع الناس عن الإيمان وبتالي ليس حدا قائما على المرتد بسبب تغييره لدينه لذلك النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يقم حد ردة، وكذلك وعمر بن الخطاب حينما جاءته جماعة من الصحابة بأنها أقامت حدا على مرتد فتبرأ من أعمالهم وقال لو أتيتموني به لاستتبته ثلاثة أيام فإن لم يتب أودعته السجن، فَهِم بعض العلماء من ذلك أنه حد تعزيري وتقديري وللقائد وللرئيس وللإمام وليس حدا وقفيا كالحدود الأخرى أستغرب بعضهم أن هذا الحد رغم أهميته لم يرد في كتاب الله وإنما ورد في كتاب الله ما يفهم منه خلاف أي العقوبة الأخروية للمرتد وأن الحديث الأساسي الوارد ففيه أنه حديث عام ( من بدل دينه فاقتلوه) قال الفقهاء بأنه ينطبق على من غير من مسيحية إلى يهودية ... أستغربوا بأن الأمام أبي حنيفة قال بأن المرتدة الأنثى لا تقتل واكتشفوا بأنه ليس عقوبة لرأي لأن العقوبة في الرأي لا مجال للتفريق فيها بين الرجل والمرأة وإنما هو هو بناء على المحارب أي الذي ينتظر منه محاربة وقتال وهذا لم يكن ينتظر من النساء فالقضية ليست إسقاطا بقدر ما هي فهم وتقدير وإجتهاد ليس جديد امع أحمد الريسوني وغيره، هذا يدل على سعة في الفقه والفكر الإسلامي . انتهي الاستشهاد من المقابلة .
وأبدأ بكلام السائل حيث قال :
(وما هو موقفكم من الحدود الاسلامية من قطع يد ورجم وإعدام ومما يثار حول حد الردة خصوصا، واجتهادات بعض المفكرين ؟).
***
أقول : لا ينبغي لمسلم يدين بالإسلام وينتمي إليه أن يداخله الشك في حدود شرعها الله تعالى وتعبد عباده بالخضوع لها، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }
إن أمر الحدود محسوم شرعا ومعلوم عند المسلمين فكيف يسأل فيه عن موقف جميل منصور أو غيره !!
وكيف يطرح هذا السؤال مسلم على مسلم وهما من شعب مسلم في دولة تقول بأنها مسلمة !!
أم أن مثل هذا التساؤل يأتي في إطار المشروع العلماني الجديد الذي أصبح محصورا في إقناع المسلمين بأن إسلامهم ليس هو الإسلام بعد أن عجز عن إقناعهم بالتخلي عن الإسلام ؟
ولماذا هذا الشغب على الحدود الإسلامية من طرف المنتسبين إلى الإسلام في حين أن روسيا تقتل السارق واستراليا تجلد الزاني ولا أحد يتهمهما بالقسوة أو التخلف ؟
الفرق بين الاجتهادات الشرعية والشطحات الفكرية
1- قال جميل منصور :
(حينما لا يجتهد الإسلاميون ويكثرون من الإجتهادات فقها وفكرا نقول هذا تزمت وتعصب وعدم تجديد، وحينما يكثرون من الاجتهادات أيضا نستغرب ذلك ونحاول أن ننسبه إلى عدم الإنضباط وعدم وضوح المرجعية، ) .
***
هذه الآراء التي سماها اجتهادات ليست هي كذلك في نظر الشريعة الإسلامية
لأن الإجتهاد في الشرع هو: ( استفراغ الفقيه جهده من أجل فهم مراد الشرع ) وأما هذه الآراء فهي (استفراغ المفكر جهده من أجل تغيير الشرع ) وشتان بين الأمرين !
فحينما تكون النصوص صحيحة وصريحة وحينما تكون الأمة مجمعة على حكم من الأحكام حينها يكون الاجتهاد لهدم الدين لا لبناء الدين،
وأول من اجتهد في موطن النص والأمر إبليس، قال الله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
وقد تقرر عند العلماء أنه لا اجتهاد مع وجود نص صحيح صريح أو إجماع ثابت صحيح،
(وفي هذا يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عند تفسير سورة محمد:
والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة، من الكتاب والسنة، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد، لأن كل اجتهاد يخالف النص، فهو اجتهاد باطل، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد.
لأن نصوص الكتاب والسنة، حاكمة على كل المجتهدين، فليس لأحد منهم مخالفتها كائناً من كان).
وقال :
(ولا يجوز التقليد فيما خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً إذ لا أسوة في غير الحق.
فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط. ولا اجتهاد، ولا تقليد فيما دل عليه نص، من كتاب أو سنة، سالم من المعارض).
وقال :
( لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلاً، مخالفاً لنص من كتاب أو سنة أو إجماع، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف وأنه يرد بالقادح المسمى في الأصول بفساد الاعتبار
وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها. وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح:
والخلف للنص أو إجماع دعا *** فساد لاعتبار كل من وعى ).
وقال:
( وبما ذكرنا تعلم أنه لا اجتهاد أصلاً ولا تقليد أصلاً في شيء يخالف نصاً من كتاب أو سنة أو إجماع). انتهى من أضواء البيان في سورة محمد.
وقد أشار الخطيب البغدادي إلى أن سقوط الاجتهاد مع وجود النص "أمر متفق عليه" [الفقيه والمتفقه ج1 ص 206].
قال المرحوم محمد محمد حسين في كتابه ( الإسلام والحضارة الغربية) :
(فالاجتهاد الذي يحترم النصوص الشرعية ويبحثها في حَيْدَةٍ ونزاهة شيء، والتطوير الذي يهدف إلى تسويغ قيم الحضارة الغربية شيء آخر. الاجتهاد الذي يتمسك بمبادئ الإسلام يُقَوِّمُ بها عوج الحياة شيء، والتطوير الذي ينزل على الأمر الواقع، ويسوغ عوج الحياة بنصوص الشريعة شيء آخر.)
فهل يحق لجميل منصور بعد هذا أن يصف الأقوال التي تنكر حد الردة بالإجتهادات؟


الفرق بين سعة الفقه وميوعة الفكر
2- قال جميل منصور :
(أنا أعتقد أن من خصائص الفكر والفقه الإسلاميين هو هذه المرونة، )
***
الفقه والفكر لا يكونان إسلاميين إلا إذا كانا منطلقين من الإسلام ملتزمين به معبرين عنه لا عن غيره، وجميل منصور بكلامه هذا يخلط بين الدين والفلسفة ...
وهما على طرفي نقيض في الطبيعة والهدف .
فالدين له معالم وحدود ومعايير وضوابط يتضح من خلالها الخطأ من الصواب، والحق من الباطل وهو ثابت على أصول مستقرة، متغير في نواحي جزئية، هدفه وغايته تحقيق رضى الله تعالى .
والفلسفة لاحدود لها ولا معايير ولا ضوابط ولا ممنوع فيها ولا محذور ولا تملك ميزانا للتفريق بين الحق والباطل وهي مجهولة المنطلقات مجهولة الغايات،
وهذه المرونة التي نسب جميل منصور إلى الإسلام لا تكون إسلامية إلا إذا كانت متقيدة بأصول الإسلام وثوابته ومسلماته، وعندما لا تكون كذلك تكون مرونة فكرية فلسفية متصفة بصفات الفلسفة ولا علاقة لها بالإسلام . وهي بالنسبة للمفكرين والفلاسفة فكر ورأي ... وبالنسبة للإسلام شذوذ وتسيب وزندقة .
قال الغزالي في الرأي المذموم :
 "فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص، أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد، أو وضع الرأي في غير محله، أو الرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل، ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسج على منوال سابق " [المستصفي في علم الاصول ج2 ص 260].
ولكي نفهم حقيقة هذه المرونة التي يدندنون حولها من المهم أن نقرأ ما كتبه المرحوم محمد محمد حسين في كتابه: ( الإسلام والحضارة الغربية) حيث قال رحمه الله في الفصل الثاني الذي عنون له بالتغريب :
(أما الأمر الآخر الذي أحب أن ألفتَ النظر إلى خُطُورته، فهو تطوير الإسلام؛ لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصرية. وقد بدأ هذا الاتجاه؛ كما رأينا في أول الأمر بإحساس الحاجة إلى مواجهة الأقضية الجديدة باستنباط أحكام شرعية تُوافِقُها، ورأَيْنا صدى ذلك فيما كتبه الطهطاوي، وخير الدين التونسي. فكتب الطهطاوي في "مناهج الألباب" عن (اقتضاء الأحكام والمُعامَلات العصرية تنقيحَ الأقضية والأحكام الشرعية بما يوافق مزاج العصر بدون شذوذ)، مقترحًا وضع مدوَّنة قانونية عصرية شاملة. ودعا خير الدين إلى الاجتهاد في أضيق الحدود، بإعادة النظر في الأحكام المترتبة على العادات إذا تغيَّرت، وردَّ على منِ احتجَّ بأنه لا يحق لنا (إحداث شرع جديد لعدم أهليتنا للاجتهاد) بأن هذا (ليس بتجديد اجتهاد من المقلدين؛ بل هو قاعدة اجتهد فيها العلماء، وأجمعوا عليها).
كانتِ الدعوة إلى الاجتهاد في هذا الطور مقتصدة غاية الاقتصاد، تدعو إليه في أضيق الحدود، ولا تنكر التقليد؛ بل هي تسلم به، وتسلم بأن أهل هذا العصر ليسوا أَكْفَاء للاجتهاد. ومن كان منهم قادرًا على الاجتهاد لا يطمحُ إلى أكثر من الاجتهاد في حدود مذهب من المذاهب الأربعة، لا يتجاوزه إلى الاجتهاد المطلق، الذي يسمو فيه بنفسه إلى مرتبة الأئمة الأربعة، ومن في طبقتهم من المجتهدينَ الأولينَ.
ثم إنَّ الدعوةَ أصبحت من بعدُ على يد محمد عبده ومدرسته ولا سيما رشيد رضا، دعوةً عامَّة تهاجم التقليد، وتطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلامي كله دون قيد. فانفتح الباب على مصراعَيْهِ للقادرينَ ولغير القادرينَ، ولأصحاب الورع ولأصحاب الأهواء، حتى ظهرت الفتاوى التي تبيح الإفطار لأدنى عذر؛ توسعًا في قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، واستنادًا إلى إباحته في غزوة الفتح. وظهرت الفتاوى التي تبيحُ المعاملات التي تقوم على الربح، وتقسم الربا إلى: ربًا ظاهر وهو ربا النسيئة، الذين يتضاعف فيه الدَّيْنِ أضعافًا مضاعفة؛ وربًا خفي وهو ربا الفضل، ولا تحرِّم إلا ربا النسيئة، أو تحرِّم الربا في أصناف معينة "الخلافة 98، يسر الإسلام 58". وظهرت الفتاوى التي تحظُر تعدّد الزوجات، وتحظر الطلاق، وتُجِيزُ تدخل القضاء فيهما. وظهرت الآراء التي تجعل الإسلام داخلاً في هذا المذهب، أو ذاك من المذاهب السياسية والاجتماعية التي ابتدعتها الحضارة الغربية الحديثة. وبذلك تحوَّل الاجتهاد في آخِر الأمر إلى تطوير للشريعة الإسلامية يهدفُ إلى مطابقة الحضارة الغربية، أو الاقتراب منها إلى أقصى ما تسمح به النصوص من تأويل على أقل تقدير.) انتهي
قلت : بل إن هذا الاجتهاد اليوم تجاوز ما تسمح به النصوص من التأويل وحطم كل القيود والضوابط .
3- قوله:
 (الدكتور أحمد الريسوني الذي اجتهد في موضوع حد الردة).
***
غاية ما فعله الريسوني أنه أثار جدلاً حول قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} حيث زعم في مقاله "حد الردة والاشكال الأصولي "أن الآية عامة غير خاصة ومحكمة غير منسوخة وأنها قاعدة كلية متناقضة مع كل الأحاديث الواردة في حد الردة!
وقد ذكرت أوجه الفساد في قوله في المسألة السادسة .


التأثر بالمفاهيم الغربية هو سبب انحراف المنكرين لحد الردة
4- قوله :
 (جماعة من العلماء المسلمين)
***
كان بإمكانه أن يسمي هذه الجماعة أو يذكر معظمها حتى يطمئن السامع إلى أن القائلين بهذا القول أهل لأن يقتدي بهم، أما أن تقلد من لا تعرف فتلك مشكلة !!
ولو أنه سمى هذه المجموعة فلن يذكر إلا أسماء من قبيل : الترابي ومحمد سليم العوا وجمال البنا ويوسف القرضاوي ومحمد عمارة وفهمي هويدي وطه جابر العلواني وعبد الحميد متولي، والجامع بين كل هذه الشخصيات هو تأثرها بالمفاهيم الغربية وانهزامها الفكري أمام الحضارة المعاصرة، وهذا الأمر وحده يسقط الثقة بأقوالها .
وقد قرأت عبارة جميلة للطاهر ابن عاشور يقول فيها:
"إن مقاصد الشريعة الإسلامية إنما بنيت على وصف الشريعة الأعظم وهو الفطرة وهي الحالة التي خلق الله عليها النوع الإنساني سالما من الاختلاط بالدعوات والعادات الفاسدة "
وهو يقصد "بالوصف الأعظم" النظرة الشرعية العامة، ومن هنا نعلم أن الذين تغيرت فطرتهم وفسد ذوقهم الإسلامي بسبب " الاختلاط بالدعوات والعادات الفاسدة " لا يمكنهم استكناه ما يدندنون حوله من مقاصد الشريعة الإسلامية لأنهم لا ينظرون إلى النص والواقع من خلال النظرة الشرعية العامة وإنما من خلال العادات والأفكار التي تلبسوا بها، وهؤلاء المتأثرون بالثقافة والمفاهيم الغربية لا يحق لهم الحديث عن النصوص الشرعية وإبداء الرأي فيها لأنهم لا يحكمون عليها من خلال المفاهيم الإسلامية وإنما من خلال المفاهيم الغربية، ولأنهم يقرأون النصوص قراءة محدثة تنسجم مع ذوقهم اللا إسلامي !! بل إن ذوق بعض المستشرقين أقرب إلى الإسلام من هؤلاء، وهم يعبرون عن هذه القراءة المحدثة بـ "التفسير العصري" و"الاجتهادات العصرية"
يقول إبراهيم محمد طه بويداين:
(وهكذا نرى التوافق والتطابق الغريب بين دعاة التأويل وإن اختلفت مدارسهم ومشاربهم وتوجهاتهم توافقا على إقصاء ونفي وتحريف مالا يتوافق مع مفاهيم الغرب وحضارة الغرب توافقا على نفي مالا يحبون ومالا يشتهون ولا يعوزهم في ذلك توظيف كل المعارف البشرية من علم التاريخ والاجتماع واللغة وعلم الأديان المقارن لإسناد هواهم وإخراجه بثوب علمي خادع براق ) [التأويل بين ضوابط الأصوليين وقراآت المعاصرين ص 127].
ولهذا لا نستغرب أن يقدموا اجتهادات تعارض النصوص القطعية، أويضربوا النصوص بعضها ببعض ويدّعوا أن بينها تعارضا، والحقيقة أن التعارض ليس راجعا إلى النصوص الشرعية وإنما إلى فساد فكرهم واختلال ذوقهم وانحرافه عن المنهجية الإسلامية.
إن فساد الذوق وانحراف الفكر وتبدل الفطرة عن صفاء المنهج الإسلامي من أهم العوامل المساهمة في نشأة الطوائف البدعية والمناهج المنحرفة، لقد تسارعت حركة المناهج المنحرفة كالمعتزلة والمتكلمين بعد دخول فلسفة اليونان وفكرهم إلى بلاد الإسلام عن طريق الترجمة، فحاول بعض المتأثرين بهذا الفكر الدخيل التوفيق بينه وبين الإسلام الأصيل، وهي هزة فكرية ولوثة عقدية وتغيرات منهجية تحدث للمنتمين للإسلام كلما احتكوا بأصحاب المناهج المخالفة للإسلام، يبدو ذلك الأمر خفيا زمن قوة الإسلام وهيمنته ولكنه يظهر بارزا عند ضعفه وقلته .
 5- قوله :
 (من بينهم إبراهيم النخعي )
***
هذا كلام يوهم بأن إبراهيم النخعي يوافق نفاة حد الردة في كون قوله تعالى: {لا إكراه في الدين } متعارضا مع حد الردة أو في قولهم بأنه حد تعزيري يتصرف فيه الإمام باجتهاده أوفي كونه يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطبق حد الردة، والواقع أن إبراهيم النخعي لا يتفق مع هؤلاء القوم في شيء من أقوالهم، وقصاري ما حكي عنه في هذا الموضوع هو قول ضعيف بعدم قتل المرتد وقوله أنه يستتاب أبدا.
وقد بينا في المسألة الخامسة ضعف هذا القول المنقول عنه وأن الثابت عنه بالروايات الصحيحة خلاف ذلك،
وأن قوله يستتاب أبدا المقصود به من تكررت منه الردة .


قتل المرتد ثابت بحكم شرعي لا باجتهاد ورأي
6- قال جميل منصور :
(و يقوم على تفسير حد الردة بأنه حد تعزيري بناءا على تقدير أمني ).
***
العقوبة في الشريعة الإسلامية إما أن تكون حدا وإما أن تكون تعزيرا، والحد هو العقوبة المقدرة الثابتة بالنص،
والتعزير عقوبة بالاجتهاد على معصية لم تقدر لها عقوبة شرعية،
ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال بأن قتل المرتد تعزير لا حد، وجميع العلماء من كل المذاهب يذكرونه في باب الحدود .
والقول بأن قتل المرتد تعزير لاحد يقتضي أنه ثابت باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم، وليس عقوبة مقدرة شرعا، وهو ما لا دليل عليه بل الدليل بخلافه .
والدليل على أن قتل المرتد ثابت بتقدير شرعي وليس باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم هو:
1- قول معاذ في الحديث السابق : "قضاء الله ورسوله " فقوله هذا دليل على أن قتل المرتد عقوبة مقدرة بالشرع لا بالاجتهاد لأن إضافة القضاء لله ورسوله دليل على أن الأمر ثابت بتقدير شرعي لا باجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم .
2- حديث عثمان ‏‏قال:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس) وهذا لفظ النسائي.
فهذا الحديث دليل علي إباحة دم المرتد وأن قتل المرتد حكم شرعي مثل قتل القاتل ورجم الزاني وليس تقديرا اجتهاديا . ‏
ثم إن القول بأن قتل المرتد كان من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعزير يقتضي ضرورة الاعتراف بمشروعية قتل المرتد وأن لجميع الائمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا به في تعزير المرتد بالقتل، لأن نفات حد الردة لا يستطيعون القول بحرمة التعزير به بعد أن عزر به النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل ناسخ ولا دليل على النسخ، فأقصى ما يستطيعونه هو القول بأن قتل المرتد مشروع لكنه غير واجب، وإذا كان الأمر مترددا بين كونه واجبا أو مباحا فإن الوجوب يرجح على الإباحة
قال الشنقيطي في أضواء البيان :
(ومنها: أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة. للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب (مراقي السعود) في مبحث الترجيح باعتبار المدلول.
وناقل ومثبت والآمر *** بعد النواهي ثم هذا الآخر
 على إباحة.... الخ.
ومعنى قوله: «ثم هذا الآخر على إباحة» أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا.)
ولكن مادام نفاة حد الردة هؤلاء يقرون بمشروعية حبس المرتد انطلاقا من أثر عمر ويقرون بمشروعية قتله تعزيرا فماذا يستفيدون عمليا من القول بعدم وجوب قتله ؟
ألا ينطلق هؤلاء من مبدأ "لا إكراه في الدين" وأن قتل المرتد إكراه على الدين ؟!
أوليس حبس المرتد وتعزيره كذلك إكراها على الدين ؟!!
أما قوله : ( بناء على تقدير أمني) فلا معني له لأن الارتداد عن الدين خطر على الدين لا على الأمن .
علة قتل المرتد هي الكفر بعد الإسلام وليس الحرابة
7- قال جميل منصور:
(وليس عقوبة لتغيير الدين )
***
هذه الدعوى يكذبها أنه لا دليل عليها ويكذبها أن الأدلة الشرعية دالة على أن العلة في قتل المرتد هي تغيير الدين ’ ومن ذلك :
قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " ففي هذا الحديث نص على أن العلة في قتل المرتد هي تبديل الدين، لأنه عطف الحكم بالفاء على العلة، ويستعمل حرف الفاء لعطف الحكم على العلة،
قال الزركشي :
(ومنها ترتب الحكم على العلة بحرف الفاء لأنها ظاهرة في التعقيب ويلزم من ذلك العلية غالبا لأنه لا معني لكون الوصف علة إلا ما ثبت الحكم عقبه وترتب عليه ).
ثم ذكر أن التعقيب بالفاء قد يدل على العلية بالصريح فقال :
(ولكن قد يدل بالصريح وذلك فيما إذا تعذر حملها على غير التعليل في بعض المواضع لدليل خاص فتصير نصا في التعليل ) [تشنيف المسامع للزركشي ج2 ص 74 75].
والدليل الخاص موجود بالنسبة لهذا الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث ..." وحديث أبي موسى : " كان يهوديا فأسلم فارتد عن الإسلام " إذ يتضح من خلال الحديثين أن العلة في قتل المرتد هي مفارقته للدين،
وبهذا يتضح أن قوله صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " يدل بالنص _لا بالظاهرفحسب _على أن العلة في قتل المرتد هي تبديل الدين .
قال الشوكاني : (والأدلة قد دلت على أن الردة سبب القتل وأن هذا السبب مستقل بالسببية كما في حديث " من بدل دينه فاقتلوه ") [السيل الجرار ج 4 ص 372].
8- قوله :
(أنه مرتبط بمرحلة معينة، كانت جماعات من اليهود تدخل الدين أول النهار وتتركه آخره لعلها ترجع الناس عن الإيمان).
***
ارتباط حد الردة بهذا الأمر تكذبه عدة أمور :
1- أنه لا دليل عليه من سنة ولا أثر إذ لم يرد في شيء من السنن والآثار أن قتل المرتد كان قاصرا على أمر معين .
2- أنه متناقض مع زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطبق حد الردة في حياته، إذ كيف يكفر هؤلاء كل يوم ولا يطبق في أحد منهم حد الردة مع أنه ما شرع إلا ردعا لهم ؟ !!
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث ..." يدل على أن قتل المرتد مشروع مطلقا لأن الحديث جاء في معرض بيان الدم المباح في الشرع.
4- قتل معاذ وأبي موسى للذي ارتد في اليمن دليل على أن الأمر ليس خاصا بيهود المدينة .
5- أن الإجماع منعقد على عموم الحكم.
9- قوله :
(و بتالي ليس حدا قائما على المرتد بسبب تغييره لدينه).
***
هذا الكلام رد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي علق وجوب القتل بتبديل الدين وجعله مناطا له.
ورد لإجماع الأمة التي انعقد اجماعها على قتل المرتد والعمل بالأحاديث الصحيحة الآمرة به.
واتهام لها بالجهل حيث ظلت طيلة القرون الماضية متفقة على العمل بحكم منسوخ !!
ولكن من هو العالم الذي قال بنسخ أحاديث قتل المرتد وقال إنها مرتبطة بمرحلة معينة ؟ وما هو دليله؟
وهل يثبت النسخ بكل دعوي؟ {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين }.
هل طبق النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة ؟
10- قوله :
(لذلك النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يقم حد ردة)
لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقم حد الردة، بل نقل عنه أنه أقام حد الردة وقد ذكرنا في المسألة الأولى أن قتل المرتد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة القولية والفعلية والتقريرية.
وذكرنا حديث البراء في الذي تزوج امرأة أبيه وأن النبي صلي الله عليه وسلم أمر بقته وخمّس ماله،
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: «ارتدت امرأة عن الإسلام فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعرض عليها الإسلام وإلاّ قُتلت، فعرضوا عليها الإسلام فأبت إلا أن تقتل، فقُتلت» [سنن البيهقي (17337)].
وقال ابن حجر: (وأخرج الدارقطني عن ابن المنكدر " عن جابر أن امرأة ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها" وهو يعكر على ما نقله ابن الطلاع في الأحكام أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل مرتدة) ذكره في باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم.
فكيف ينسب هؤلاء القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم ينقل عنه ولا ينسبون إليه ما نقل عنه ؟ !
وحتى لو لم ينقل ذلك عنه فعدم النقل ليس دليلا على عدم الوقوع إذ قد يقع ولا ينقل وعلى فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم حد الردة في حياته فليس ذلك دليلا على عدم مشروعيته إذ قد يكون ذلك لعدم الردة أصلا أو لعدم التمكن من المرتد ..
ويكفي في إثبات الحكم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المرتد لأن أمره أبلغ في تقرير الوجوب من مجرد فعله .
أضف إلى ذلك أنه قد تقرر في علم الأصول أن المثبت مقدم على النافي، ومن علم حجة على من لم يعلم، وأن عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه. ونحن قد أثبتا بعلم، وهم قد نفوا بجهل!
11- قوله:
( وعمر بن الخطاب حينما جاءته جماعة من الصحابة بأنها أقامت حدا على مرتد فتبرأ من أعمالهم وقال لو أتيتموني به لاستتبته ثلاثة أيام فإن لم يتب أودعته السجن، ).
***
ذكرت في المسألة السابعة أن هذا الكلام ما هو إلا تخليط وتلبيس لأن صاحبه يحاول إيهامنا بأن استتابة ثلاثة أيام وإيداع السجن المذكورين في أثر عمر متغايرين وقد تبين من خلال المقارنة بين روايات الأثر أنهما شيء واحد وأن كل رواية عبرت بأحد اللفظين.
وقد بينت هناك أن أثر عمر هذا المقصود به إنكار ترك الاستتابة لا إنكار قتل المرتد.

قتل المرتد تعزير أم حد ؟
12- قوله:
(فَهِم بعض العلماء من ذلك أنه حد تعزيري وتقديري وللقائد وللرئيس وللإمام وليس حدا وقفيا كالحدود الأخرى).
***
ليس في الشريعة الإسلامية شيء اسمه حد تعزيري فالعقوبة في الشريعة الإسلامية إما أن تكون حدا وإما أن تكون تعزيرا، والحدود الشرعية ليس من صلاحيات الإمام التدخل فيها لا بالعفو ولا بالتخفيف وإنما يحق له ذلك في العقوبة التعزيرية اللتي هي موكلة إليه، وقد بينت فيما سبق أن عقوبة المرتد حد لا تعزير،
فالقول بأن عقوبة المرتد تعزير وأنها من صلاحيات الإمام متلازمان، فحيث كانت تعزيرا فهي من صلاحيات الإمام وحيث لم تكن تعزيرا فليست من صلاحياته،
فكلامه إعادة لفكرة واحدة بأسلوب آخر لا جديد فيه !!
والقول بأن قتل المرتد كان من النبي صلى الله عليه وسلم علي وجه التعزير يمكن أيضا أن يقال بالنسبة لحد شارب الخمر ورجم الزاني المحصن لأن القرآن لم يرد فيه ذكرهما!!
فهل نترك حدود الله تعالى من أجل دعاوي المتلاعبين ؟!!
وقد قال عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس على المنبر :
(أخشي إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ) [رواه البخاري ومسلم].
وقد صدق ظن عمر رضي الله عنه حيث ظهر في هذه الأيام من ينفي الرجم لأنه لم يرد في القرآن !!
حيث قال :( ... وحق لى من بعد أن انتقل الى المفاجاة الكبرى وهى أنه لا رجم في الإسلام كما هو مذهب الخوارج عامة ومنكم من يعتد بخلافه فقهيا .
 فضلا عن ان القضية هى باب الرواية فتصدق عليهم قاعدة يؤخذ برواياتهم . لا بآرائهم . على ان ماشاع وذاع من قول بالرجيم يعتمد على طائفة من الاحاديث لم ترتفع عن درجة الحسن منها الحديث المتعلق بماعز بن مالك الاسلمى والحديث المتعلق بالغامدية الازدية . والاتفاق قائم بدون منازع على أن لحديث المخالف مخالفة صريحة للقرآن لايعتد به مهما كانت درجته ) [أين الخطأ- عبدالله العلايلى ص 87].
فهل يوافق نفاة حد الردة من الإخوان على كلام هذا الرجل ؟
وما هو الفرق بين نفيه هو للرجم ونفيهم هم لحد الردة ؟
بدعة التفريق بين ما ورد في السنة وما ورد في القرآن:
13- قوله :
(استغرب بعضهم أن هذا الحد رغم أهميته لم يرد في كتاب الله).
***
هذا الكلام لا معنى له لأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله تعالى ودليل مستقل يجب اتباع ما وردفيه ولو لم يرد في القرآن، والمخالف له مخالف للقرآن .
وقد روى البخاري (5939) عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنـه ـ: أنه لعن الواشمات والمتنمّصات والمتفلجات للحسن المغــيرات خـلق الله، فـقـالـت امـرأة قـرأتِ القـرآن يـقـال لـهـا أم يعـقـوب: مـا هذا؟ فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- وهـو في كـتاب الله. قالت: لقد قرأت ما بين اللـوحين فما وجـدتُـهُ. قـال: والله لو قرأتيـه لقـد وجـدتـيه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
وقد تكررت الآيات التي تبين أن السنة وحي من الله وأنها منزلة من عند الله مثل القرآن تماما :
قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } والمقصود بالذكر هنا السنة لأنها هي التي تبين للناس القرآن وفي الآية تصريح بأنها منزلة من الله مثل القرآن.
وقال تعالى : {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم } وهذه الحكمة المنزلة هي السنة وليست القرآن لأنها معطوفة عليه والعطف يقتضي المغايرة.
وقال تعالى: {واذكرن ما يتلي في بيوتكن من آيات الله والحكمة }
 والتلاوة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم المقصود بها تنزيل الوحي والحكمة هي السنة،
فدلت الآية على أن السنة منزلة مثل القرآن
وتكررت الآيات التي تبين أن النبي صلي الله عليه وسلم متبع للوحي ولا يأمر إلا بما فيه موافقة له :
قال تعالى: {قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
وقال تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي }
وأمر الله تعالى بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال كل ما أمر به واجتناب كل ما نهى عنه
فقال : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
وأقسم الله تعالى بأنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم النبي صلى الله عليه وسلم ويرضى ويسلم لحكمه : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما }.
وأخبر بأن عدم الإستجابة له اتباع للهوى فقال: {فإن لم يستجيبو لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم }
وأخبر بأن طاعته طاعة لله فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله }.
وحذر الله تعالى من مخالفة النبي صلي الله عليه وسلم وعدم امتثال أمره فقال : {فاليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }.
وعطف الله تعالى طاعة النبي صلي الله عليه وسلم على طاعته في أكثر من آية :
فقال تعالى: {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَـٰفِرِينَ}.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ}.
وقال: {وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم}.
وهذا الاستدلال الذي ذكره جميل منصور ما كان ينبغي له أن يذكره لأنه لا يتفق مع منهج أهل السنة وإنما مع منهج أحمد صبحي منصور وغيره من نفاة السنة الذين يسمون أنفسهم "القرآنيين" إي الذين لا يؤمنون إلا بما ورد في القرآن ويرفضون أن تكون السنة دليلا شرعيا، وهؤلاء يصدق عليهم ما رواه الحاكم والترمذي وابن ماجه بسند صحيح:
عن الحسن بن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (حرم رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال : يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدَث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ).
وهذا الاستدلال أشبه بمنهج الخوارج الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
 (والخوارج لا يتمسكون من السنة إلا بما فسر مجملها دون ما خالف ظاهر القرآن عندهم فلا يرجمون الزاني ولا يرون للسرقة نصابا وحينئذ فقد يقولون : ليس في القرآن قتل المرتد) [مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 149)].

حد الردة مذكور في القرآن
14-قوله:
(و إنما ورد في كتاب الله ما يفهم منه خلافه أي العقوبة الأخروية للمرتد).
***
هذا استدلال باطل لأن العقوبة الأخروية لا تدل على انتفاء العقوبة الدنيوية، وكثيرا ما يذكر الله تعالى العقوبة الأخروية لبعض المعاصي في موضع ثم يذكر العقوبة الدنيوية في موضع آخر مثال ذلك :
قال تعالى في الزنا :{ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا }
وقال في موضع آخر: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة }
وهكذا قد ترد العقوبة الأخروية في القرآن وترد العقوبة الدنيوية في السنة فيعمل بذلك كله لأن الكل وحي من عند الله تعالى .
وقد يذكر الله تعالى المعصية بالذم والتقبيح فقط، وتكون مستلزمة للعقوبة الدنيوية والأخروية،
مثال ذلك نكاح زوجة الأب فإن الله تعالى قال : {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } ولم يذكر له عقوبة في الدنيا ولا في الآخرة ومع هذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء -الذي تقدم ذكره –بقتل الذي نكح زوجة أبيه .
وقد ذكر الله تعالى الخمر في القرآن فقال : {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وقال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }
ولم يذكر القرآن للخمر عقوبة دنيوية أو أخروية وإنما ورد ذلك في السنة .
ثم إن العقوبة الدنيوية لا تنفك عن العقوبة الأخروية لأن كل صاحب معصية مستحق لهما فهما متلازمان قدرا لقوله تعالى : {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } ومتلازمان شرعا لأن كل صاحب معصية مستحق للتعزير في الدنيا والتعذيب في الآخرة .
وقد ورد في القرآن ما يدل على عقوبة المرتد في الدنيا وذلك في قوله تعالى:
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [سورة التوبة: 74]، فقد ذكرت الآية العقوبة الدنيوية والعقوبة الاخروية والمقصود بها القتل،
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: ".. {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وهذا لمن أظهر الكفر فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة" مجموع الفتاوى (7/273).
وقال ابن الجوزي: "قوله تعالى : {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} بالقتل وفي الآخرة بالنار" [زاد المسير (ص /596)].
وقال ابن كثير :( {فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والاَخرة} أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا أي بالقتل والهم والغم، والاَخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار).
وقال ابن جرير: ( أما قوله: {فإنْ يَتُوبُوا يَكَ خَيْرا لَهُمْ } يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من ذلك خيرا لهم من النفاق. {وإنْ يَتَوَلّوْا} يقول: وإن يدبروا عن التوبة فيأبوها، ويصرّوا على كفرهم {يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَابا ألِيما} يقول: يعذّبهم عذابا موجعا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذّبهم في الاَخرة بالنار.)
وقال القرطبي :( قوله تعالى: "وإن يتولوا" أي يعرضوا عن الإيمان والتوبة "يعذبهم الله عذابا أليما" في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار).
حد الردة لا يطبق إلا على من خرج من الإسلام إلى الكفر:
15-قوله:
(و أن الحديث الأساسي الوارد ففيه أنه حديث عام ( من بدل دينه فاقتلوه) قال الفقهاء بأنه ينطبق على من غير من مسيحية إلى يهودية).
***
هذا الذي نسبه إلى الفقهاء مخالف لما ذكروه والعكس هو الصحيح :
قال القرطبي عند قوله فعالى {ومن يرتد منكم عن دينه }الآية:
(واختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر، فقال مالك وجمهور الفقهاء: لا يتعرض له، لأنه انتقل إلى ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه. وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه يقتل، لقوله عليه السلام: (من بدل دينه فاقتلوه) ولم يخص مسلما من كافر. وقال مالك: معنى الحديث من خرج من الإسلام إلى الكفر، وأما من خرج من كفر إلى كفر فلم يعن بهذا الحديث، وهو قول جماعة من الفقهاء).
قال في الموطأ:
(حدثنا يحيى عن مالك عن زيد بن اسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من غير دينه فاضربوا عنقه ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى والله اعلم من غير دينه فاضربوا عنقه انه من خرج من الإسلام إلى غيره مثل الزنادقة وأشباههم فإن أولئك إذا ظهر عليهم قتلوا ولم يستتابوا لأنه لا تعرف توبتهم وانهم كانوا يسرون الكفر ويعلنون الإسلام فلا أرى ان يستتاب هؤلاء ولا يقبل منهم قولهم واما من خرج من الإسلام إلى غيره واظهر ذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل وذلك لو ان قوما كانوا على ذلك رأيت ان يدعوا إلى الإسلام ويستتابوا فإن تابوا قبل ذلك منهم وان لم يتوبوا قتلوا ولم يعن بذلك فيما نرى والله اعلم من خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها الا الإسلام فمن خرج من الإسلام إلى غيره وأظهر ذلك فذلك الذي عني به والله اعلم).
وقال ابن حجر:
(فلو تنصر اليهودي لم يخرج عن دين الكفر، وكذا لو تهود الوثني، فوضح أن المراد من بدل دين الإسلام بدين غيره لأن الدين في الحقيقة هو الإسلام قال الله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " وما عداه فهو بزعم المدعي، ويؤيد تخصيصه بالإسلام ما جاء في بعض طرقه، فقد أخرجه الطبراني من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس رفعه " من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه )فتح الباري.
وقال الشوكاني :
(المراد من بدل دينه الذي هو دين الإسلام لأن الدين في الحقيقة هو دين الإسلام قال الله تعالى : {إن الدين عند الله الإسلام} ويؤيده أن الكفر ملة واحدة، فإذا انتقل الكافر من ملة كفرية إلى أخرى مثلها لم يخرج عن دين الكفر. ويؤيده أيضا قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} وقد ورد في بعض طرق الحديث ما يدل على ذلك، فأخرجه الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفعه : "من خالف دينه دين الإسلام فاضربوه عنقه" ) نيل الاوطار باب قتل المرتد .
وبهذا يتضح أن الحديث ينطبق على من خرج من الإسلام إلى الكفر ولا ينطبق على من خرج من الكفر إلى الكفر ..
وليت شعري ماذا يريد جميل منصور بقوله : (قال الفقهاء بأنه ينطبق على من غير من مسيحية إلى يهودية) هل يريد من المسلمين أن يتعبدوا لله بقتل من تحول من مسيحية إلى يهودية وأن يعاقبوا من خرج من دين الكفر ولا يعاقبوا من خرج من دين الاسلام !!
ينبغي للعاقل أن يفكر قبل أن يتكلم ..!
هل العلة في قتل المرتد عند أبي حنيفة هي الحرابة ؟
16- قوله:
(أستغربوا بأن الأمام أبا حنيفة قال بأن المرتدة الأنثى لا تقتل واكتشفوا بأنه ليس عقوبة لرأي لأن العقوبة في الرأي لا مجال للتفريق فيها بين الرجل والمرأة وإنما هو بناء على المحارب أي الذي ينتظر منه محاربة وقتال وهذا لم يكن ينتظر من النساء).
***
أبو حنيفة وغيره من العلماء القائلين بعدم وجوب قتل المرتدة لم يذهبوا إلي هذا الرأي لأن العلة في قتل المرتد عندهم محصورة في الحرابة، ومن نسب هذا القول إليهم فقد أخطأ وافترى عليهم، بل إنهم نظروا إلى عموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء وعموم أمره صلى الله عليه وسلم بقتل المرتد فرجحوا العموم الأول.
بينما رجح الجمهور الأخير، كما قال ابن الهمام تعليقا على حديث { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء } :
 (في الحديث الصحيح، وهذا مطلق يعم الكافرة أصليا وعارضا، وثبت تعليله صلى الله عليه وسلم بالعلة المنصوصة كما قدمناه في الحديث من عدم حرابها فكان مخصصا لعموم ما رواه بعد أن عمومه مخصص بمن بدل دينه من الإسلام إلى الكفر ). [فتح القدير لكمال بن الهمام - (13 / 227)].
وقال الكاساني : (والحديث محمول على الذكور عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض).
وهم لم يقولوا بأن علة قتل المرتد هي المحاربة بل إنهم يتفقون مع بقية العلماء في أن العلة في قتل المرتد هي مفارقته للدين لا غير. والأحناف يصرحون بذلك في كتبهم كثيرا، ومن أمثلة ذلك :
قال السرخسي :
(لأن الشرع جعل شهود الشهر سببا لوجوب الصوم قال الله تعالى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ومثل هذا لبيان السبب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه فاقتلوه") [المبسوط - (ج 4 / ص 216)].
وقال أيضا :
(وفيه دليل أن سبب العتق الملك مع القرابة فإن مثل هذا في لسان صاحب الشرع بمعنى بيان السبب كما قال من بدل دينه فاقتلوه وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}[البقرة: من الآية185]) [المبسوط للسرخسي - (7 / 125)].
وقال القرطبي في تفسيره :
(وقال الثورى وأبو حنيفة وأصحابه: لا تقتل المرتدة، وهو قول بن شبرمة، وإليه ذهب بن علية وهو قول عطاء والحسن، واحتجوا بأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه"، ثم إن ابن عباس لم يقتل المرتدة، ومن روى حديثا كان أعلم بتأويله، وروي عن علي مثله، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان).
وقال الكاساني في علة ترك قتل المرتدة :
 ( ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تقتلوا امرأة ولا وليدا } ولأن القتل إنما شرع وسيلة إلى الإسلام بالدعوة إليه بأعلى الطريقين عند وقوع اليأس عن إجابتها بأدناهما، وهو دعوة اللسان بالاستتابة، بإظهار محاسن الإسلام والنساء أتباع الرجال في إجابة هذه الدعوة في العادة، فإنهن في العادات الجارية يسلمن بإسلام أزواجهن على ما روي أن رجلا أسلم وكانت تحته خمس نسوة فأسلمن معه، وإذا كان كذلك فلا يقع شرع القتل في حقها وسيلة إلى الإسلام، فلا يفيد ولهذا لم تقتل الحربية بخلاف الرجل فإن الرجل لا يتبع رأي غيره، خصوصا في أمر الدين بل يتبع رأي نفسه، فكان رجاء الإسلام منه ثابتا، فكان شرع القتل مفيدا، فهو الفرق) [بدائع الصنائع - (15 / 423)].
و الربط بين قول أبي حنيفة بعدم قتل المرتدة والقول باشتراط إمكان المحاربة معناه أن أبا حنيفة لا يقول بقتل المرتد -الذكر – إلا إذا كان محاربا، وهو لا يقول بذلك قطعا، وفساد النتيجة دليل على فساد المقدمة .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
(الاعتبار عند النزاع بالرد إلى الله والى الرسول والكتاب والسنة دال على ما ذكرناه من ان المرتد يقتل بالاتفاق وان لم يكن من أهل القتال إذا كان أعمى أو زمنا أو راهبا) [مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 4 / ص 252)].
ومن الأدلة على أن أبا حنيفة يرى أن العلة في عقوبة المرتد هي تبديل الدين لا الحرابة قوله بعقوبة المرتدة بالحبس والضرب :
قال شيخي زاده في مجمع الأنهر :
 ( والمرأة إذا ارتدت لا تقتل عندنا حرة كانت أو أمة بل تحبس إن أبت ولو صغيرة فتطعم كل يوم لقمة وشربة وتمنع من سائر المنافع حتى تتوب أي تسلم أو تموت) [مجمع الأنهر - (4 / 383)].
وقال ابن قدامة :
(وقال أبو حنيفة : تجبر على الإسلام بالحبس والضرب، ولا تقتل ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا تقتلوا امرأة" ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي، فلا تقتل بالطارئ، كالصبي ). [المغني ج 8 ص 76].
وهنا مسألتان منهجيتان ينبغي التنبه لهما :
الأولى : أنه ينبغي أن تكون أقوال النبي صلي الله عليه وسلم حاكمة على أقوال العلماء لا العكس، فينظر في أقوال العلماء فما وافق منها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم قبل وما خالفها رد، أما أن يعمد إلى أقوال العلماء فتحرف لكي يرد بها قول النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه ولبس الحق بالباطل، ومثاله في موضوعنا هذا تفسير رأي أبي حنيفة بطريقة يمكن من خلالها رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم،
الثانية: أن الشارع إذا أناط الحكم بوصف معين فيتعين الوقوف عند ذلك الوصف وجعله مناطا للحكم دون غيره .
ومثال ذلك في موضوعنا : "تبديل الدين " فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعله مناطا لوجوب القتل فقال : "من بدل دينه فاقتلوه " .
 فمن قال : لا يقتل إلا المحارب فقد جعل مناط وجوب القتل هو الحرابة لا " تبديل الدين " وهو خلاف النص الصريح .
وهذا من تحريف الأدلة قال الشاطبي :
(ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يَرِد الدليل على مناط فيصرفه عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ) [الاعتصام ج1 ص 181].
17- قوله:
(فالقضية ليست إسقاطا بقدر ما هي فهم وتقدير وإجتهاد ليس جديد امع أحمد الريسوني وغيره، هذا يدل على سعة في الفقه والفكر الإسلامي).
***
كما ذكرنا هناك فرق بين سعة الفقه وميوعة الفقه، أما سعته فمعناها أن فيه القابلية لاستيعاب كل جزئيات الحياة المتجددة وإعطاء حكم فيها يتفق مع الشريعة الإسلامية، بما لا يتعارض مع المسلمات القطعية والأصول الثابتة، والفقه الإسلامي مشتمل على هذه الصفة قطعا .
وأما ميوعة الفقه فمعناها أن لا يكون له شكل ثابت ولا أصل مستقر وأن يجعل الحكم اليوم أمرا قطعيا ثم ينفيه غدا نفيا كليا في منهجية يختلط فيها الظني بالقطعي والمشكوك فيه بالمجزوم به، والفقه الاسلامي بريء من هذه الصفة قطعا،
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :
(حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن خالد بن سعد قال : دخل أبو مسعود على حذيفة فقال : اعهد إلي، قال : أولم يأتك اليقين ؟ قال : بلى، قال : فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله ؛ فإن دين الله واحد ).
والاجتهادات التي ذكر جميل منصور تسير على منهج الميوعة هذه، وهي ليست دليلا على سعة الفقه الإسلامي بل هي دليل على سعة الجرأة على الإسلام وتنوع الحرب الموجهة ضده حيث شملت الحرب على المسلمات والثوابت والقطعيات وهذه " لاجتهادات " لا تستحق أن تدون في دواوين الفقه الإسلامي وإنما في شطحات الزندقة وما هي إلا "ضرطة عير في فلاة " وستبقي شريعة الإسلام الناصعة ونصوصه المحكمة صخرة شماء تتحطم عليها كل شطحات الزنادقة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ولا يشفع لهذه الشطحات الفكرية أن أصحابها ينتسبون إلى الإسلام ويريدون بها خدمة الاسلام.
فلا ينبغي أن ننسى أن المعتزلة والقدرية والخوارج لهم فكر ينتسب للإسلام أرادوا من خلاله خدمة الدين ولم يمنعه ذلك من أن يكون باطلا وضلالا.

الخاتمة
 أخيرا : نؤكد على ما ذكرناه من كون حد الردة ثابتا بالتصريح بالسنة والإجماع وأن القرآن الكريم أشار إليه، وأن تطبيقه ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وأن الأمة أجمعت على العمل به في سائر الأعصار وأنه أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة، وانه حد مقدر بالشرع وليس تعزيرا مقدرا بالإجتهاد، والتشكيك فيه تشكيك في أمر من المسلمات الشرعية الثابتة التي لا يستطيع أن يتجرأ على إنكارها إلا من كان معرضا عن شرع الله غير خاضع له بالكلية، أما من كان يزعم أن مرجعيته الكتاب والسنة فكيف يجرؤ على إنكارها ؟ ولهذا مازلت أطرح هذا السؤال بكل عفوية واستغراب :
لماذا ينكر الإخوان حد الردة ؟
وهل هم دعاة لإقامة الحكم الإسلامي أم دعاة لتمييع الشريعة الإسلامية ؟
نسأل الله تعالى أن يهدي كل المسلمين ويحفظهم من شطحات الزنادقة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


أبو عبد الرحمن الشنقيطي .